لم يعد الاهتمام بالماءِ والمياهِ مَقصُورًا على جهةٍ، أو فئةٍ، أو مُنظمةٍ، أو دولة، أو أي كيان كان، لقد أصبحت المياه اليوم مُهمة الجميع بلا استثناء، وأصبح الحصول على الماء، والحفاظ عليه، واستدامته مُهمةٌ صَعبةٌ ومستعجلة، في ظلِ التغيرات البيئية والمناخية والجيوسياسية، والاحتباس الحراري، وزيادة مُعدل البخر والجفاف والتملح، وانخفاض مُعدلات هُطول الأمطار، وتفاوت أماكن سقوطها، كما هو واجبنا تقليل بصماتنا الكربُونية، أيضًا نحن بحاجة لتقليل بصماتنا المائية؛ لذا أصبح من الواجب والضرورة الـمُلّحة، مَعرفة البصمة المائية، ما هي وكيف يتم احتسابها، وكيف على الإنسان أن يستشعر جُرم إهدار “جرام واحد” من حباتِ الأرز أو من قطعة صغيرة من اللحم، أو أي جزء من أي وجبة كانت، ومنتج يُستهلك من قبلك، وما العواقب في التغاضي والتهاون عن ذلك حاليًا ومستقبلًا..؟!
هناك ثلاث بصمات مُتعارف عليها وتُقاس ومازالت الدراسات مُستمرة عليها وهي ناتجة عن السلوك البشري؛ كالبصمة الكربونية، والبصمة الأرضية، ثم البصمة المائية؛ والتي تُقدّر بشكلٍ تقريبي عن مدى استخدام المياه العذبة بمصادرها المختلفة، لجميع المنتجات والسلع والخدمات الـمُتعلقة بالبشرية، وبمعنى آخر؛ تُمثل إجمالي المياه الـمُستخدمة في إنتاج سلعة أو مُنتج أو خدمة ما، بشكل نهائي، والتي يستفيد منها الفرد، تختلف البصمة المائية باختلاف المكان والزمان وظروف الإنتاج والثقافة السكانية والسلوك الجمعي، ونوع الخدمة والمنتج المدروس، نباتيًا كان أو حيوانيًا أو غير ذلك، وتُقاس البصمة المائية بهدف الحصول على المؤشرات المائية، وكفاءة استخدام الموارد المائية، والحفاظ على النظم البيئية، وحساب التكاليف الإجمالية، عند وضع الدراسات الـمُستقبلية، والاحتياجات المائية، ودراسات الجدوى الاقتصادية، وكذلك عند دراسة العادات الاستهلاكية، لتُعطي صَانعي القرار، الخيارات المؤثرة، والعمليات الاقتصادية والفنية، لكفاءة استخدام المياه بشكل أفضل، وللحفاظ على الموارد المائية، وسُبل ترشيد استخدامها واستدامتها، وكلما كانت البصمة المائية أقل، كلما كانت الكفاءة أعلى، فمثلًا عدد الأمتار المكعبة، اللازمة لإنتاج طن من اللحوم البيضاء (لحوم الدواجن مثلًا) من خلال التقنيات والممارسات والتكنولوجيا الحديثة اليوم اختلفت عمَّا كان عليه في القرن الماضي.
البصمة المائية (Water footprint WF) مفهومٌ مُبتكر تم تصوره في تسعينياتِ القرنِ الماضي، ولكن تم استخدامه فعليًا منذُ العام 2002 من قبل العالم الهولندي (أرجين هوكسترا – Arjen Hoekstra)، الذي وضع الأدلة والمعادلات الحسابية وقواعد البيانات المطلوبة لتقدير البصمة المائية، ضمن فريق بحثي مُتخصص وشبكة عالمية.
تزداد المخاطر من ندرة المياه مع زيادة عدد السكان حول العالم، وزيادة الاعتماد على المنتجات كالألبان واللحوم والمشروبات بأنواعها، وكل المنتجات والخدمات بلا استثناء، ومع استمرار مشكلة الندرة، وتعدد النُظم الغذائية، وزيادة مُعدل طول سلاسل التوريد والإمداد الغذائي، والعولمة، والظروف الجيوسياسية الدولية، وزيادة الطلب على المياه، في جميع أنحاء العالم. لقد أصبحت المياه اليوم ثروة ومحور التجاذبات السياسية، والصراعات الناشئة والمتجذرة حول العالم، ومن هذا المنطلق تم تصنيف المياه إلى: المياه الجوفية ومياه الأمطار والمياه العذبة والمياه المعالجة وغيرها؛ وبناءً على ذلك تم التقسيم طبقًا لمعايير البصمة المائية إلى: (البصمة المائية الزرقاء، والخضراء والرمادية)، ويُقصد بالزرقاء: هي حجم المياه العذبة التي تبخرت من موارد المياه السطحية والجوفية (الآبار والعيون والأنهار والبحيرات والسدود والخزانات والبرك)، وهذا النوع بإمكاننا التحكم بها من خلال أنظمة الري وطريقة الاستخدام، أما بالنسبة للبصمة المائية الخضراء: هي حجم المياه الـمُتبخرة من موارد المياه (كالأمطار الـمُخزنة في التربة)، وهذه لا يمكن التحكم بسقوط الأمطار على المنظور القريب، في حين أن البصمة المائية الرمادية: يُقصد بها كمية المياه العذبة المطلوبة واللازمة لتخفيف الملوثات الناتجة عن المنتج، عند التعدين والصناعات المختلفة، وحتى الريّ السطحي التقليدي الجاري للمحاصيل المزروعة، ويتم التركيز على هذا النوع بالتحديد، وقياسه بهدف معرفة مُعدل تلوث المياه، وسُبل تخفيف ذلك التلوث، وتدلل على مدى جودة المياه، والنقاط المعيارية لتحقيق ذلك.
وعند تتبع سلعة ما، كاللحوم الحمراء مثلًا: منذ كان الحيوان جنينًا حتى أصبح طعامًا في طبقك، أيها الـمُستهلك للحوم الماشية (كلحم العجول)، وطبقًا لتقديرات مُنظمة الفاو كمتوسط عالمي: قُدرت كمية المياه اللازمة لإنتاج كيلوجرام واحد منها يُقدر بخمسةِ عشرِ ألف لتر من المياه، يعني الجرام الواحد الذي تهدره من اللحم أثناء تناول الطعام، يعني أنك أهدرت خمسة عشر لترًا من المياه، وعلى نفس السياق، هل تعلم أن طبق واحد من الأرز يزن كيلوجرام يحتاج إلى 2500 لترٍ من الماء، يعني عندما تترك في الطبق عشرة جرامات فقط، يعني أنك تترك هدرًا 25 لترًا، وإن أردت أن تتناول بعضًا من التمرات كتحلية، فكيلو التمر الواحد يحتاج إلى 2300 لتر تقريبًا، يعني لو تركت تمرةَ واحدة، تزن كمتوسط “7سبعة جرامات” فأنت تهدر 19 لترًا من الماء تقريبًا، هل تتصور تلك الأرقام..
” 15+25+19= 59 لتر” في جلسة واحدة لفرد واحد على أقل تقدير…!
وفي دراسة إحصائية لدول الشرط الأوسط للباحثة رُوى مراد وآخرون، حول البصمة المائية لبعض الـمنتجات الحيوانية في المملكة العربية السعودية كإحدى دول الشرق الأوسط والتي تصنف ضمن المناطق الجافة عالميًا، نُشرت الدراسة في ديسمبر 2019، وقد بينت أن إنتاج طن من لحوم الماشية (اللحوم الحمراء) يحتاج إلى 14.973 ألف متر مكعب، وطن واحد من لحوم الدواجن يحتاج إلى 2.035 ألف متر مكعب، ولحوم الماعز 4.805 ألف متر مكعب، في حين بلغت لحوم الضأن 6.096 ألف متر مكعب، والبيض بدون القشرة يحتاج الطن الواحد على 2.262 ألف متر مكعب، وأخيرًا حليب الأبقار يحتاج الطن الواحد إلى 826 ألف متر مكعب. هل عرفت عزيزي المستهلك الآن مقدار استهلاكك من المياه، لتوفير طعامكم، وشرابك وتصنيع ثيابك، وتوصيلها إليك، كم تهدر من المياه في اليوم الواحد..!
فالمياه لا يقتصر مفهومها اليوم على مياه الحنفيات، والحمامات، وريّ الحدائق المنزلية، وغسيل الملابس، فكل قضمة من طعام، وشربة من شراب، وقطعة من ملبس، حتى الورق الذي تكتب عليه، والقطن الطبيُّ الذي تستطب به، والكرسي الذي تجلس عليه، وجميع المنتجات بلا استثناء، كل تلك تؤثر بطرقٍ غير مُباشرة على الموارد المائية في أرجاء المعمورة، فمثلًا عند تناولك قطعة لحمٍ حمراء مشوية وزنها 100جرام، فهي تعادل 25 مرة استحمام، ولمدة 4 دقائق..!
وكنظرة عميقة لإنتاج لتر من الحليب كمنتج نهائي، تختلف كمية المياه اللازمة له من مكانٍ إلى آخر، حيث يُقدر كمتوسط عالـمي بـ235 لترًا لكل لترٍ من الحليب، لكن هذه النسبة تختلف باختلاف المكان، والموسم ودرجة الحرارة والظروف البيئية ومعدل معالجة المياه، ففي المناطق الجافة قُدرت الكمية على أقل تقدير بــ 8 لتر ماء لكل لتر حليب كما هو الحال في جنوب إفريقيا، أما في المناطق الـمروية فقط وصل إلى 160 لتر ماء لكل لتر حليب، في حين كان في المناطق الـمُمطرة والمروية على حدٍ سواء، يصل إلى 505 لتر لكل لتر حليب، أما في السعودية كإحدى الدول الجافة، يُقدر احتياج إنتاج لتر واحد من الحليب كالتالي: 10 لتر من المياه الخضراء، و49 لترًا من المياه الزرقاء، 5 لتر من المياه الرمادية، أي بمجموع 64 لترًا من إجمالي المياه المحلية، في المقابل؛ يحتاج لترًا واحدًا من الحليب إلى 695 من المياه الخضراء، 18 لترًا من المياه الزرقاء، و50 لترًا من المياه الرمادية، بإجمالي 762 لترًا من المياه المستوردة (المياه المستوردة على شكل أعلاف بأنواعها ومركزات وإضافات عليفة وأدوية وغيرها من الخدمات والمنتجات اللازمة)، تختلف الكمية باختلاف طريقة الإنتاج، ومصادر الأعلاف الـمُستخدمة ونوعها، وظروف الإنتاج والتربية، والموسم الإنتاجي، وكفاءة استخدام المياه في أنظمة المزارع، ومُعدل مُعالجة المياه.
صحيح أن هناك تُضاربًا بين العلماء والباحثين والمراكز العلمية البحثية عالميًا ومحليًا حول تلك الأرقام والإحصائيات المنشورة سلفًا، لكن يعتمد على طريقة التربية ونوع الإنتاج وظروفه المختلفة، وطول سلسلة الإمداد، ومُعدل المعالجة، ونوع الماء الـمستخدم، وهل هو من ضمن المياه الزرقاء أم الخضراء، أو الرمادية..! بمعنى آخر مدى استفادة البشر من ذلك الماء، وقدرتهم على الحفاظ عليه.
*طالب دكتوراة – كلية علوم الأغذية والزراعة – جامعة الملك سعود.