اعتاد الناس التحدث عن مواقف الناس الإيجابية بعد وفاتهم، ومن حق أصحاب المواقف وخاصة الإنسانية أن نتحدث عنهم في حياتهم لنقدم للناس نماذج يقتدي بها وأثر تلك المواقف على حياتهم لاحقًا؛ وحديثي هنا عن المواقف الإنسانية التي عاصرتها في جامعة أم القرى لمعالي أ.د. بكري عساس أثناء رئاسته لها لفترة 8 سنوات والتي أتذكرها بشريط حافل بالأعمال الإنسانية، حيث انتهت الفترة الزمنية للوظيفة ولم تنتهِ ذكرى مواقفها الإنسانية لمعاليه مع الطلاب والموظفين والزملاء، والتي تركت أثرًا كبيرًا في نفسي جعلتني أشعر بالامتنان لهذا الرجل القامة وليس ذلك فقط بل أتوجه بالدعاء له في ساعات الاستجابة، وأنا والله أكتب ذلك لوجه الله، وشهادة معاصرة لمعاليه، وتظهر الرجولة في المواقف الإنسانية لتعبر عن مروءة الرجل ومروءة من حوله، للحكم عليها بمنطق المبادئ الأخلاقية وليس بالمصالح الشخصية.
وكانت مواقف معالي د. عساس الإنسانية ناتجة عن المشاعر والقيم الدالة على قيمته كإنسان تميز عن غيره من الناس بما يمتلكه من قيم ومبادئ لا يتنازل أبدًا عنها لتمتعه بالمشاعر النبيلة والخُلق السامي منطلقًا من مكارم الأخلاق التي جسدها نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- في سلوكه حيث كان قرآنًا يمشي بين الناس، وتتجسَّد تلك المواقف الإنسانية في بداية كل عام دراسي في أعداد المقبولين في الجامعة؛ حيث كانت أم القرى تقبل أعدادًا كبيرة من الطلاب والطالبات واستيعابهم في كليات وأقسام الجامعة حسب التخصصات المطلوبة وتعززها معدلاتهم، وهو بذلك كان يخفف من وضع الحالة النفسية لأسر الطلبة لانشغال أهلهم بأمر قبولهم، ويوليهم الرعاية والاهتمام والمتابعة وتذليل الصعاب.
كان يكرم الطلاب المبدعين والمتفوقين في الجامعة، وأذكر مرة كان أحد طلاب قسم الإعلام المتفوقين أ. ضيف الله الخزمري لديه تكريم من معالي د. عساس، وقد بحث عن العميد أو رئيس القسم ليذهب معه فلم يجد وطلب مني أن أذهب معه فلبيت الدعوة وتوجهت معه إلى مكتب معاليه واستقبلنا؛ وكأننا من كبار مسؤولي الجامعة وسمح لنا بالجلوس معه ما يقارب نصف ساعة كنت أتناقش معه أنا والطالب في موضوعات كثيرة وقابل ذلك بصدر رحب دون استعجال حتى إن موظفي المكتب كانوا يؤشرون لنا من خلفه إلى الساعة بأنه انتهى الوقت وانتهت الجلسة بالتكريم للطالب وأخذ الصور مع معاليه، وترك انطباعًا جيدًا لدي كعضو هيئة تدريس في الجامعة، وكذلك لدى الطالب الذي يعتبر الآن من أنجح كبار المسؤولين الإعلاميين في مكة المكرمة.
موقف آخر قام مرة بزيارة لنا بقسم الإعلام قبل عقد من الزمان أثناء رئاسة سعادة أ.د. أسامة المدني حيث كان يتناقش معنا عن القسم واحتياجاته، وأثناء الحديث جاء طارئ نصيحة أخذها من والدته -رحمها الله-والتي دمعت عيناه وهو يتحدث عنها مما أثَّر فينا جميعًا بذلك الموقف الإنساني، كما أنه تجاوب بتلبية احتياجات القسم الذي طلبها رئيس القسم منه، ولم يتخلص من ذلك بأعذار واهية كما يفعل البعض.
من المواقف الإنسانية أيضًا أنه كان يزور الطلاب إلى قاعات المحاضرات ويلتقي بهم وبأعضاء هيئة التدريس المتواجدين ويسألهم عن أحوالهم واحتياجاتهم ويتجاوب مع طلباتهم، وكان يتمتع بروح مرحة ومداعبة مناسبة للموقف تترك سرورًا على الجميع في نهاية زيارته؛ حيث كانت إحدى زياراته للطلاب في إحدى محاضراتي. كان أيضًا يهتم بالطلاب الوافدين من الدول العربية والإسلامية ويطمئن على أحوالهم وتيسير أمورهم ومساعدتهم وتخفيف الغربة عنهم. من المواقف الإنسانية أيضًا أنه كان لا يخطئ أحدًا من الطلاب أو الزملاء؛ وإن حدث فيعالج الأمر بحكمة رفعًا للإحراج.
وآخر المواقف المؤثرة أنه في أحد احتفالات الجامعة كان من ضمن الحفل مسابقة للسحب على سيارة، وأعلن عن الرقم الفائز وجاء طالب أفريقي بالورقة التي فيها الرقم وكان قد أخطأ في قراءة الرقم، وظهر في نفس الوقت صاحب الرقم الحقيقي وأعلن عنه؛ فكان ذلك الموقف محرجًا ومحزنًا على الطالب من الأخوة الافارقة وتقديرًا من معالي د. بكري عساس لمشاعر الطالب وحزنه على الخسارة حيث جبر بخاطره، وأشار أن تُعطى السيارة للطالب الفائز بالرقم وتبرع من جيبه بسيارة أخرى للطالب الإفريقي، جبرًا لخاطره، وكان موقفًا إنسانيًا عظيمًا من رجل عظيم أثر في جميع الحضور من طلاب وأولياء أمورهم، وأعضاء هيئة تدريس، وموظفين، وكان موقفًا من أجل إسعاد الغير.
ومن هنا نجد أنه لولا الإنسانية التي زرعها الله في قلب معالي د. عساس ما كان ذلك الموقف الإنساني المؤثر، والإنسان القوي وحده هو من يمتلك مكارم الأخلاق؛ فالإنسانية تجعل الإنسان يشعر بغيره ويعطف على كل من حوله؛ فالإنسانية والأخلاق الكريمة هي الباقية في الحياة، والأخلاق الكريمة والصفات الطيبة، تجعل المرء محبوبًا محمودًا.
ورغم كثرة مواقفه الإنسانية التي تعبر المشاعر الإيجابية نحو الناس؛ إلى أنه كان جادا في عمله وحازما في إدارته وحاسما في قراراته، ومن ضمن ذلك أذكر أحد المواقف له معي حيث زار في يوم خميس كليتنا ودخل القاعة التي فيها طلابي لمادة التدريب وانزعج من عدم وجودي فيها وسال عن اسم الدكتور وأخذ الاسم وأخبرني الطلاب بذلك وإذا به يرسل خطاب سري إلى عميد الكلية يطلب التحقيق في غياب الدكتور عن المحاضرة وبلغني العميد بذلك وطلب مني الرد مكتوبا، فكتبت أننا في القاعة ليس لتدريس مادة وإنما للقاء مادة التدريب العملي لتخصص العلاقات العامة واخترنا أحد قاعات الكلية الفارغة ثم ذهبت إلى مكتبي الذي كان قريبا منها لإحضار نماذج عملية التي ستكون محور التدريب العملي للمادة وشرحها وكيفية إنجازها، كما أن القاعة ليست مخصصة للمادة ونحن نجتمع عدة مرات في بداية الفصل ثم نرسل الطلاب إلى أقسام العلاقات العامة في المؤسسات الرسمية والتجارية والخيرية، والحمد لله أن معاليه قد قبل المبررات وقدر الموقف.
– عضو هيئة تدريس سابق بقسم الإعلام – جامعة أم القرى