لا أحد يُنكر وجود تلك الفجوة الواسعة بين القول والعمل في مجتمعنا العربي، بين ما ندرسُهُ في كُتُبِنا ومدارسنا وما نعيشه في واقعنا وفي كافة مناحي حياتنا، ومن أمثلة التناقض الواضحة في حياتنا ما نراه من تناقض وتَعَارُضٍ جليٍّ بين ما يتعلمه الطالب في المدرسة وما يراه في الشارع، ففي المدرسة يتعلَّم المُثُل والأخلاق الفاضلة، وعندما يخرج للشارع والحياة العامّة أو يشاهد القنوات الفضائية يجدُ عكس ما تعلّمه في المدرسة، فهو على سبيل المثال يتعلم الصدق والأمانة والوفاء والمساواة والعدل والإخاء واحترام الآخرين وغير ذلك من الأخلاق الفاضلة، وفي حياته الخاصّة والعامّة يجد عكس أو نقيض ما تعلمه تمامًا، أي أنّ هناك مجتمعًا مثاليًا في المدرسة وبين دفات الكتب، ومجتمعًا آخر مختلفًا ومتناقضًا في الشارع، وعلى أرض الواقع، مصداقًا لقول الشاعر:
سارَت مُشرِّقةً وسِرتُ مُغَرِّبَاً شتَّان بين مُشَرِّقٍ ومُغَرِّبِ
وقول آخر:
مَتَى يَبلُغُ البنيانُ يوماً تمامَهُ إذا كُنتَ تَبْنِيهِ وغَيـرُكَ يَهدمُ
ولعل من أبرز تجليات تلك الفجوة العميقة أزمة الثقة في الإصلاح، والتي توارثتها الأجيال منذ قرون خلت، وهي بلا شكّ آفةٌ أصابت المجتمع بمختلف شرائحه، ثم امتدّت إلى الكيان أو الدولة بكل مؤسساتها، ولكن ما يتفطّر له القلب ألمًا ولوعةً حالة الانهيار الاجتماعي – أقصد علاقات الناس مع بعضهم البعض- بل لقد وصل الأمر مبلغًا عظيمًا في الفداحة، إذ فَقدَ الإنسان العربيُّ ثقته بنفسه في كثيرٍ من الأحيان، فصار الانفصام والتناقض حتى مع الذات، وصارت كينونة الإنسان مهددة، وبلا قيمة، بعد أن آثَر الاندماج والانخراط في الحياة الاجتماعية لا حبًا وطواعية، بل قسرًا وكراهية، فهو لن يتمكّن من العيش وحيدًا، ولكننا نجده في الغالب عازفًا عن النصيحة للآخرين؛ لأنه يرى نفسه خارج دائرة ما يقوله، أو بعبارة أخرى يرى نفسه مفتقدًا لمصداقية ما يقوله، وما يصدر عنه من مواقف وآراء، هنا ربما تدور عجلة الأيام ويصبح هذا الشخص في موقع المسؤولية ذات يوم، ولكن بإرادة ضعيفة، ونفسية مهتزّة، لا مبدَأَ له، يدور في فَلَك مَصَالِحه ونزواتِهِ الشخصيّة والحزبية الضَّيِّقة، ولنا أن نتخيَّل مقدار الازدواجية الأخلاقية التي تتملَّكُ هذا الشخص، وتسيطر على أقواله وتصرفاته، وكسريان النار في الهشيم نجد أنفسنا في دوامة لها بداية، وليس لها نهاية من النفاق والغفلة والفساد المُسْتَشْرِي في جَسَدِ مُجْتَمَعِنا المُنْهَك المُتْعَب، وهكذا تتعاقب الأجيال، ويكبر الطفل فينا ليتعلم ما نسميه بالعامية: “الفَتاحَة والدّردحة والشطارة..”، أو بعبارة أخرى يكون قد تعلم فنون السقوط في براثن الكذب والرذيلة ومغازلة المجتمع المحيط به شيئًا فشيئًا حتى يتحول إلى ترسٍ منسيٍّ في ذلك المجتمع الهشّ الضعيف.. الذي يتسعُ فيهِ التّباينُ الحادّ، ويعلو فيه صوت الأنا المنتفخة، وتمتلئ القلوب بالإحن والشحناء والكراهية، وتتمزق صفوفُنا في بحر الغيبة والنميمة والغمز واللمز والكيد تجاه بعضنا البعض، وتغيب معاني الصراحة والصدق وطهارة القلب وصفاء النفس فيما بين أبناء المجتمع الواحد، بل قل الأسرة الواحدة ..
ووسط كل هذه الفوضى والظلمات يغيب التكافل والإخلاص والمحبة والتضحية، ونداء الفطرة السَّويّ، الذي خلقنا الله من أجله، وهنا لا مكان للرسالة والهدف والغاية النبيلة والاستقامة، بعد أَنْ حلَّ محلَّها الانتهازيةُ والأنانيةُ والنّفاق بكل أشكاله، والمصلحة الشخصية والحزبية، وقِلَّةٌ هُمُ النّاجون الذين لم تنزلق أقدامهم في مهاوي الخسران المُبِين.. أما النخب فهي غارقة في وَحْل الارتزاق والرداءة في مواقفها، وتتناقض أقوالها مع أفعالها.. ولله درُّ القائل:
يُقْضَى على المرءِ في أيَّام مِحْنَتِهِ حَتَّى يَرَى حَسَنَا ما ليس بالحَسَنِ
ويحضرني هنا ما قاله الكاتب الكندي “آلان دونو” في كتابه الشهير (نظام التفاهة): إن التافهين قد حسموا المعركة لصالحهم في هذه الأيام، لقد تغير الزمن زمن الحق والقيم، ذلك أن التافهين أمسكوا بكل شيء، بكل تفاهتهم وفسادهم؛ فعند غياب القيم والمبادئ الراقية، يطفو الفساد المبرمج ذوقًا وأخلاقًا وقيمًا؛ إنه زمن الصعاليك الهابط..”
ولو تأمَّلنا الحالة النفسية لمجتمعاتنا العربية سنجد أنّ معظم أفراده يعيشون حالة اللهو والعبث والركض خلف الدنيا وملذّاتها، وهم ينسون أو يتناسون أنّ حبَّ الدنيا رأسُ كلّ خطيئة، حيث يقضي جُلّ حياته معتقدًا أنّ أداء بعض الشعائر والمناسك الدينية، كفيل بإدخاله الجنة، وكفيل أيضًا بأن يجعله راضيًا ومستقرًا من الناحية النفسية، ولا أبالغ إذا قلت: إن هذا التفكير بحدّ ذاته يُعتبر جزءًا من جملة الأوهام التي تسيطر على العقل العربي في زماننا، أضف إلى ذلك ما نعيشه من وهم التميُّز والتفوق النوعي على غيرنا من المجتمعات الإنسانية..، أيضًا وَهْم الانتصارات والإنجازات الوهمية.. وأرى أن ذلك كله ما هو إلا صورة جلية عمّا نعيشه من تناقضات تحيط بنا من كل جانب، وتمضي الأيام والليالي، وتنقضي أعمارنا، وتذهب البركة من حياتنا كلها، فنصبح كثرة لا خير فيها، بل تكثر وتفشى فينا الأمراض أفرادًا ومجتمعات، وتتسع الفجوة في القيم والمبادئ، ونرتع في وحل الاضطراب والازدواجية وعدم الاتزان بين ما نؤمن به وما نفعله على أرض الواقع، ويبقى السؤال: تُرى مَن يُصلحُ الملحَ إذا الملحُ فسد، ولعل الحديث النبوي المشهور يلخص لنا واقع الحال بدقة، إذ يقول الرسول (صلى الله عليه وسلم): “يوشك الأمم أن تداعى عليكم، كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، فقال قائل: ومِن قلَّةٍ نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم يومئذٍ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السَّيل، ولينزعنَّ الله مِن صدور عدوِّكم المهابة منكم، وليقذفنَّ الله في قلوبكم الوَهَن. فقال قائل: يا رسول الله، وما الوَهْن؟ قال: حبُّ الدُّنيا، وكراهية الموت”.
وما زال الجميع يقف متسائلًا عن الأسباب التي جعلت العرب من أشدّ الشعوب بؤسًا وإحباطًا، فنحن نحلم وننتظر حدوث النهضة منذ عشرات السنين، إلا أننا نستيقظ على المزيد من السقوط والضعف والتخلف، وهنا يحاول البعض التهوين من فَدَاحَة ما يحدث من انهيار قيمي وأخلاقي في أمتنا، معتبرًا أن ذلك كُلَّه من إفرازات التقدم المعاصر وتعقيداته، ونتيجة لصراع الحضارات، فميزان القُوَى الحَضَاري ليس في صالحنا، ولذا فالقُوَى المُهَيمنة تفرض ثقافتها وأنماط تفكيرها علينا، أجل كل هذا صحيح، ولكنه لا يعني الاستسلام والخضوع للأمر الواقع، بل لا بد أن نبحث عن أسباب الانهيار والتراجع، والحلول التي تُخرجنا من هذا النفق المظلم، وأعتقد أن ذلك لن يتم دون الرجوع إلى منظومة القيم الأصيلة والعادات والتقاليد التي كنّا نفاخر العالمَ بها، إلى جانب التمسك بالتعاليم الدينية الوسطية التي لا تعرف التطرف والغُلُو، ولا بد من العمل على إحياء كل ما ذكرناه من خلال المناهج الدراسية ووسائل الإعلام المختلفة والخُطَب المنبريّة، وكافة الأطر الثقافية والأكاديمية والفكرية والسياسية.. ويبدأ ذلك كله بتتبُّع تلك الظواهر السلبية ودراستها بجدية والعمل على تحليلها وتفكيكها، ومن ثم إيجاد الحلول المناسبة لها.. ولا يخفى على أحد أن ذلك يحتاج وقتا ونَفَسًا طويلاً، وخططًا بعيدة المدى لتطبيقه؛ وذلك بغية الخروج بثمار حقيقية من ورائه.