يَفهم كُتّاب اليوم، منذ الربع الأخير من القرن الماضي عبر الدراسات العربية، بأن السخرية هي كل ما يؤدي إلى الاستهزاء والتحقير والفكاهة والهزل الذي يُثير الضحك لدى المتلقي والمرح، وما يحمل روح الدعابة.
ومن هنا – وقد أهداني الأستاذ/ العزيز حسين السنونة مجموعته (نساء قريتي لا يدخلن الجنة) – رأيت تقريبًا هذا المفهوم المتداول الحالي مُتجسدًا في أسلوبه السردي، في أغلب قصص المجموعة، وذلك أثناء محاولاتي المتواضعة لفهم أسرارها؛ إذ من اللافت في قصص الأستاذ السنونة، قُربها من صميم المجتمع، وصياغتها الساخرة، والتي تدل على قدرة مميزة في كيف يمكن أن يقتنص الحدث فيورده إلينا بطريقة تملأ القلوب ابتسامة، وقهقهة وضحكة، بدءًا من فهم سر العنوان، وانتهاءً بآخر سر يحمله السطر الأخير من قصته الأخيرة (عدالة الشمس) حين ذكر بأن الشمس عندما يراها المسؤول (ينقبض وجهه في وجه الحارس والسائق، فيرتد هلعًا إلى فراشه منتظرًا غروبها).. إذ إن التناقض ما بين الظاهر والباطن في عبارة متناقضة أو غير معقولة تشي للمتأمل أن لها أساسًا في الحقيقة.
والعنوان الذي وجه من وجوه فهمه وتأويله بأن النساء اللاتي يخرجن على أعرافهن، يخرجن بمفاهيم ساذجة مضحكة تؤدي بالمجتمع إلى الفساد ولا تصلحه، بل وتجعله محلًا للسخرية والضحك، وبالتالي لا يدخلن الجنة.. وكأنه يقول من الأجدى أن يبقوا على حالهن إذا لم يكُنَّ أكثر وعيًا بالنتائج المستقبلية لأي فكرة تغيير أو إصلاح، كما تدعو لها القصة ذاتها التي حملت ذات العنوان داخل المجموعة بنحو غير مباشر. وتأويلنا للعنوان بهذا مبني على ما جاء به الأقدمون بأنّ السخرية هي : “نوع مـن الهـزء ، قوامـه الامتناع عن إسباغ المعنى الواقعي أو الحقيقي على الكلمات، والإيحاء عـن طريـق الأسـلوب وإلقاء الكلام بعكس ما يقال”، الوصف الذي ذهبت إليه الدراسات الأجنبية من قبل ما يزيد على ألفي سنة، ولكنه لم يُقبل في هذا العصر إلا من قبل البعض.
وفي المجموعة الكثير من العبارات والمعاني المجملة للقصص تضمنتها المجموعة في طي سردها للأحداث ووصفها لبعض المشاعر أو لوصف شخصية أو نهاية للحدث وغيرها، سنقف على بعض منها إجمالًا.
في قصة (قهقة من السماء) وكيف أن لرجل ستيني عجوز متململ من حياته فجأة يضحك هيستريًا فيُضحِك رواد المقهى ثم من في خارجه ومن في الشارع من العابرين والعاطلين … وهكذا إلى كل فرد من أفراد المجتمع فصلحت أحوالهم وأخلصوا أعمالهم إلى أن وصلت العدوى إلى رئيس الحكومة وبادلهم الضحكة؛ فضحك مجمل الشعب ومجلسه وقضاته ومحاميه وجيشه.. حتى يتبين لنا أن السارد هنا، يحاول النقد اللاذع بطريقة الضحك والاستهزاء من تردي حال كل فرد صغير وكبير، غني وفقير، متعلم وغير متعلم، رئيس ومرؤوس، كونهم لا يضحكون أبدًا، حزينون، متجهمون، عابسون، مقطبون، بل وكأنه يريد أن يقول بأن المجتمع لكي يصلح حاله لا يحتاج إلا إلى ضحكة رجل عجوز يحترمه العالم ويقدره. أي غرض الساخر هو نقد تردي المجتمع النفسي، ويتضح هذا في تبيان سبب ضحكة الرجل التي ما كانت إلا عن قول له (يا محترم، فشعر أنه مواطن عربي محترم) ومن هنا أيضًا نفهم بأن السـخرية: “طريقة مـن طرق التعبير، يستخدم فيها الكاتب ألفاظًا تقلب المعنى إلى عكس ما يقصـده المـتكلم، وهـي صورة من صور الفكاهة تعرض السلوك المعوج التي إن فطن إليها وعرفها فنان موهوب تمـام المعرفة، وأحسن عرضها، حينئذ تكون في يده سلاحًا مميتًا”.
في قصة (إذا فسد الملح) يعضد هذا القول قوله: (أخاف أن يأتي يوم تكون هناك فاتورة على كمية الهواء الذي نتنفسه) وقوله: (فاتورة الكهرباء التي أصابها إسهال) وقوله: (أن الرجل من الوطن إذا فسد أصلحه الرئيس ولكن إذا فسد الرئيس فمن يصلحه) فأردف أن الرئيس إلى الآن وعالية القوم ما زالوا فاتحين أفواههم..
وفي قصة (السجن يسدد) السخرية من أن خلاص المديون الذي يعجز عن سداد دينه عليه أن يعمد إلى فعل يدخله السجن، وتلقي المكافأة الشهرية الخاصة بالسجناء، وجمعها لسداد جزء من ذلك الدين المستعصي، فضلًا عن أن السجن رادع قوي للزوجة بأن تُقَتر في مصروفاتها ومصروفات المنزل فتجمع هي من جانب آخر تسدد الباقي، أو تتحمل من مصاريف أعباء البيت، وإن كان على حساب فقد العائلة للأب المسؤول وحرمانهم حنانه وأمانه.
وفي قصة (الوسائد البيضاء)، قوله بأن (نافذة الفندق الأولى تطل على مسجد والثانية تطل على مقبرة)، بل وتكهناته الساخرة على (من يا ترى وضع رأسه على تلك الوسائد قبله؟) .. ثم يتبيَّن له من موظف الفندق بأنها خاصة بالحيوانات الأليفة التي ترافق أصحابها، وقد صرفت له غرفة الفندق عن طريق الخطأ.
أيضًا في قصة (عاش أحمر ومات أخضر)، ومحاولة تهكمه على الملحدين وحديثه مع أحدهم حول محبوبه (كارل ماركس) ولماذا يكون ملحدًا في مجتمع كله مسلم؟.. فيرد عليه الملحد: أنت حدك حضور المناسبات الدينية والسفر للعراق مع أمك وأبيك لزيارة العتبات المقدسة.. أي لا يعي ما هم عليه، ويزداد تهكمًا عليه حين يعرض سبب ارتدائه قميصه الأسود. مبطنًا سخريته بأنك ملحد ويفترض أن ترتدي شعار ولون الملحدين لكنك تلبس الشعار الأسود الدال على الحزن الذي هو شعار فئة معروفة من العالم، أنت تعيش بين أفرادها.
وهكذا تستمر السخرية حتى يوصم أولئك الملحدين بالرجعية والغباء السياسي وعدم الوعي في التحليل وقراءة المستقبل.. إلخ ثم يعمد إلى إماتة ذلك الملحد بأزمة قلبية وتقام له مراسيم المسلمين ويُلف في رداء أخضر، الذي هو أيضًا من شعارات تلك الفئة، بل ويقرأ عليه القرآن الكريم، وهو قبل موته ينكر تلك الأمور. يستخدم الكاتب هذا الأسلوب من النقد؛ إذ إن الهزل في الفن هو انعكاس للهزل فـي الحيـاة، والسخرية تُعتبر من الفنون الواقعية التي لا تعرف التجرد ولا تعيش في الأبراج العاجية، بل تنهض بوظيفة المصحح الاجتماعي، بما تقوم به من نقد بنّاء، وترسيخ لقيم العدالة، وذلك عن طريق الانتقاص من القيم والعادات السلبية في المجتمع، على أنها بديل مستساغ للعقاب.
في قصة (كانت لي أحلام) وسخريته على من يُدعي (وطن) كيف أن الآخرين يفتخرون به وبحضارته وثقافته وأنه من عائلتهم، وفي المقابل هم في الواقع متفوقون عليه ومتطورون أفضل منه. على أنه بجرأة يقصد الوطن لا غيره.
وفي قصة (هذيان المطر) زوج يريد أن يحتفل مع زوجه بعيد زواجهما، فاختاروا حديقة البيت ككسر للروتين المعتاد عوضًا عن السفر إلى الدول الأخرى، وهناك بدلًا من أن يقضيا وقتهما في رومانسية وهدوء وانسجام في كل آن يطلع عليهم فرد من أفراد عائلتهم فيفسد الجو، حتى أصاب الزوجة العدوى فكأنما بدأت بإثارة أسئلة، ومن خلال أجوبتها من قبل زوجها سوف تفسد الجو أكثر فأكثر بينما هو يحاول التملص من الإجابة..
وكذلك تهكمه في قصة (العامل الأسمر) حين برر نائب المدير بأن عمله في غسيل السيارات سوف يجعل أشعة الشمس تنعكس على السيارات اللامعة على زجاج المدرجات والفصول؛ فيؤثر في تركيز الطلاب.
وفي قصة (أصوات خشبية) بدءًا من هذا العنوان الذي يتهكم به على الأصوات التي يشمئز منها حين وصفها بفرقعات الخشب بعضه ببعضه الآخر.. ويقصد به أصوات المعلمين حين يجتمعون في غرفتهم الخاصة في المدرسة فلا تخرج من حديثهم إلا بكلمات لا طائل منها لسد الفراغ وتسلية النفس، وهكذا في قصة أخرى هُزْأهُ من أن المهووس المريض المليء بالشهوات وامتلاك كل شيء دون أن تهمه طريقة الامتلاك، الذي يردد (أنا وما بعدي الطوفان) يصبح رئيسًا للدولة فلم يجد ما يغيره، فتطرأ عليه فكرة تغيير الشعب إجمالًا. ليأتي على المعنى المعجمي الذي يحمل في طياته استخدام المفهوم ليعطي أثرًا يدل علـى الضـحك أو الإضحاك، والنيل من الآخرين. بل ويمكن القول بأن السخرية من أكثر الظواهر تشبثًا بالبنية الاجتماعية لأنها “تعطـي الساخر صفة المتحدث الرسمي للمجتمع وتمنحه الضوء الأخضر ليشرع سهامه فـي نقـد مـن يميلون عن الجادة، بل ويمكن أن نقول: إن السخرية خير مرآة تـنعكس عليهـا أحـوال المجتمـع وأحوال الواقع.
وأخيرًا في (عصا جدي) وسخريته على الشاب المتدين المنخرط في خدمة الناس من خلال المناسبات الدينية المختلفة، ويغازل امرأة متزوجة مبررًا ذلك بأن زوجها لا يحسن مغازلتها، وهي قد قدمت ابتسامتها إشارة منها بالقبول، وهذا بعد في الأسلوب السردي إدراك أن السخرية انفعال نفسي يتشكل في وجدان الإنسان، وحالة قلبية تظهر مشاعر المنفعل، وتتبلور على شكل حركات وعلامات يقوم بها على المستوى الإرادي حينًا وحين آخر على المستوى غير الإرادي.
وفي الختام.. تقول الباحثة عبير إسماعيل زارع هديب، من جامعة جرش، الأردن: ويمكن إرجاع أسباب السخرية إلى عاملين أساسيين، بتفريعات كثيرة ومتداخلة، العامل الأول له علاقة بذات الساخر، فقد يكون شعوره بالتفوق على مجتمعـه يورثـه تعاليـًا يجعـل الآخرين – في نظره- أدنى منه منزلة، وقد يكون شعورًا بالحرمان ناتج عن نقص خُلقي، وربما كان الدافع الألم، والسخرية متنفسه، وقد يكون محاولة لإبراز القدرة على التمكن مـن ناصـية الإبداع.
أما العامل الثاني، وهو العامل الأقوى، فهو اجتماعي، يـدور حـول المتناقضات الاجتماعية سواء أكانت في الأخلاق التي تخرج عن الوصف السـليم، أم العـادات التي تتعلق بالمجتمع بوصفه مجموعة أفراد، فإذا اتصف المجتمع بذلك، فإنه سـيحفز المبـدعين من أبنائه لانتقاده بهدف إعادة التوازن إليه، ولعل العوامل الاجتماعية هي أقوى الـدوافع علـى الإطلاق، فهنا يأتي دور الأديب الساخر، الذي يلجأ إلى إبراز “عيوب المجتمع، ونقائص النـاس، وهو يسخر بها جميعًا، ولا يَسُّبها، ولا يحقد عليها، بـل يتأملهـا بهـدوء، ويبصـر سـخافتها، وتناقضها، فيعلو عليها، ويتحدث عنها بابتسامة هادئة جليلة هازئة، فالسخرية هـي الهـدوء والعلو التامين”.
هذا والله الموفق.