أشرنا فيما سبق إلى رؤية التفكيكيّين في الدالّ والمدلول، ولعلّ القارئ الكريم يرى المقالات تراوح بين مصطلحي التقويضيّة والتفكيكيّة، ويرجع ذلك إلى أنّ مدلولهما واحد، والتسمية الأصليّة في فلسفتها هي التقويضيّة، ولكن استعمل مصطلح التفكيكيّة تحسينًا لصورة المدلول الفلسفيّ.
وقبل أن نكمل القول في مستتبعات تلك الرؤية ينبغي أن نشير إلى الدوالّ بوصفها ناقلات المعاني، كاشفات أبنية التفكير، والدوالّ كثيرة يعدّ اللفظ اللغويّ أحدها وهو -بلا شكّ- أشهرها وأهمّها على الإطلاق، ومن تلك الدوالّ الوظيفيّة:
الدالّ الحدسيّ، والدالّ الحسيّ، والدالّ العقليّ، والدالّ الطبيعيّ، والدالّ الإيحائيّ. وغيرهنّ دوالّ أخر.
ولا تستطيع تلك الدوال أداء وظيفتها الكلّيّة دون مساعدة الدالّ اللغويّ. ولذلك يصاحب الدالّ اللغويّ جميع الرؤى الفكريّة، والمقولات الفلسفيّة، ومنها الرؤية التفكيكيّة في كلّ مقولاتها. من تفكيك النصّ الأدبيّ، إلى تفكيك بنية الحضارة والعقل المتشكّل داخل تلك البنية.
والحضارة الغربيّة ابنة العقل الغربيّ الذي يستنسخ نفسه من الحضارة بعد أن أنتجها عبر قرون تصارعت فيها عوامل الحياة مع تعاليم الأديان الصحيحة والمزيّفة، وعنف السلطة التي حكمت رؤية العقل، وكيّفته لمصالحها.
وقد تناولت الفلسفة التفكيكيّة المقولات الأخلاقيّة التي يصفها العقل بالمثاليّات، لتفكّكها وتفصل بين الدالّ الأخلاقيّ”المثاليّ” المزيّف، وهو الظاهر، وبين الواقع الأخلاقيّ “المفعّل” وهو المدلول الحقيقيّ للأخلاق التي يمارسها المجتمع بلا استثناء.
فالواقع ليس أخلاقيّا مثاليًّا في نظر التفكيكيّة، إنّما المثاليّة فقط في اللغة التي تصف الأخلاق، أمّا العمل الأخلاقيّ فلا تصفه اللغة وصفًا حقيقيّا.
لذلك جرّدت التفكيكيّة الأخلاق الغربيّة من وصفها اللغويّ، ففصلت بين الدالّ والمدلول في الأخلاق؛ فالشرف، والأمانة، والضمير، والحقّ، والعدل، والصدق، والوفاء، والولاء، والإخلاص، وغيرها من معاني الأخلاق المثاليّة هي -في نظر التفكيكيّة- لها وجود لغويّ مزيّف وواقع عمليّ مفارق لوجودها اللغويّ.
وبعد أن فكّكت هذا الارتباط بين المثاليّة اللغويّة والواقع الأخلاقيّ، استعانت التفكيكيّة بالفلسفة الأخلاقيّة عند نيتشة -الأبّ الروحيّ للتفكيكيّة- الذي بذر بذورها ولم ير نتاجها.
استعانت التفكيكيّة بفكرته وهي أن تكون مدلولات المصطلحات الأخلاقيّة هو ما يراه العقل الفرديّ لا العقل الجمعيّ المزيّف. ورؤيّة العقل الفرديّ ينغي أن توجّهها المصلحة الفرديّة دون النظر إلى أبعادها التأثيريّة على الآخرين.
وهذا المفترق الخطير في رسم الأخلاق والمثاليّات في التفكيكيّة، أعطى الفردّ حرّيّة المعنى الأخلاقيّ من مبدأ الرؤية الفرديّة التي امتلكت المعنى بعد فصل الدالّ عن المدلول.
فالدوالّ الأخلاقيّة، والأسماء المثاليّة في بنية الأخلاق صارت تفسّرها الرؤية الفرديّة، وتمنحها المعنى الذي تراه. فما يراه (س) من معاني الأخلاق، يختلف عمّا يراه (ص) ويختلف كلّ منهما عمّا يراه كلّ فرد في المجتمع.
ولا يلزم أحدًا المعنى الذي كرّسه العقل الغربيّ المكوّن من بنية مزيّفة. بعد أن فصلت التفكيكيّة الدالّ عن مدلوله وسلّمت زمام المعنى للحرّيّة الفرديّة، فالأخلاق بعد التفكيكيّة اختيار فرديّ بناء على تفسير الفرد نفسه، ورؤيته التي أعطيت حرّيّة المعنى من قبل، وليس بناء على قيود المجتمع الأخلاقيّة ومثاليّته الزائفة.!
0