المقالات

الأب ذلك الفارس المجهول

عندما فقدت والدي قبل قرابة السبعة الأعوام حسبت أن هذا الفقد له نهاية العالم، وليس ثمة شك أن موت أحد الوالدين يمثِّل هزة عنيفة لأي منا. ولكنني وجدت بعد سنوات من الفقد أن الشوق لا ينتهي، وأن العالم حقًا مختلف وموحش من دون ذلك الاتصال اليومي وعبارات النصح والتوجيه، ونظرات الحب وجرعات الإشادة أو الدعوات التي لا تنقطع من بدء الاتصال حتى نهايته. ولا تزال تلك الرسائل المكتوبة عبر الجوال أو التسجيلات الصوتية في جهاز الرسائل الصوتية سلوى لقلب ابنة مشتاقة وشديدة الولع لكل ما يصل إلى روح أب لم تغب عنا، وحده الجسد الذي غاب.
ترجل الفارس عن جواده مبكرًا إثر مرض مزمن، ولم يشأ أن يكون عبئًا على أحد، بل كان يكرر دعاءه برحيل آمن بعيد عن أعين المحبين لرقة العاطفة التي متعه الله بها. ومع حزمه الشديد وقدرته على ضبط النفس والعمل تحت ضغط شديد فإنه كان رقيقًا في مشاعره عطوفًا قادرًا على منح شعور الدفء والأمان لكل المحيطين به، سواء كانوا أقرباءه أو غيرهم من الغرباء الذين يوافيهم أو يمر بهم. كان كل هؤلاء يحسون رقته، مع حزمه الشديد الذي عرف به حين يتعلق الأمر بالحق. هذه النظرة لشخصية والدي المميزة ليست مقتصرة عليَّ، بل كانت هي نظرة الكثيرين ممن أحاطوا به. وقد رصدت جزءًا مما عرفته وما تعلمت في كتاب علمني والدي (2018) الذي أصدرته بعد أشهر من رحيله، رحمه الله، وفي ذلك الكتاب حاولت رصد ما تعلمت منه على مدار سنوات حياته وقد كنت محظوظة بأني كنت أكبر أبنائه… تعلمت الكثير، تأملت سكونه، حديثه، فرحه، وحزنه. لقد كان فريداً في كل شيء، وكل ما رأيناه وعشناه في شخصيته وفي طريقة تعامله وجدنا له انعكاسًا في حياتنا. كما تضمن الكتاب مقتطفات من أخلاقه وطباعه وتوجيهاته لعل من يقرأها من أحفاده خاصة، أو من أفراد الجيل الحالي يجد فيها ما يلامس قلبه، ويحفز مشاعره لأعمال البر والصلاح لنفسه ومجتمعه. ولولا ذلك الإخلاص الذي عرف به والدي لربه ثم لذاته، ولولا ذلك الصدق في مشاعره لما تأثر به أحد من حوله ممن عمل معه وممن عرفه حتى بعد سنوات من رحيله، ولذا لا تزال أصداء خيره وحسن تعامله وبره وشهامته وقوته في الحق مع لين قلبه تصل إلينا نحن أبناءه إلى اليوم.
وليس ثمة شيء دفعني لكتابة هذه الأسطر، التي أجلت كتابتها كثيرًا، إلا قناعتي التامة بالدور المحوري للأب في تنشئة أبنائه وتربيتهم، كما أني أعتقد أن والدي بالذات كان استثناء وملهمًا في نظري. أقول ذلك، على الرغم من عظم دور الأم الكبير والجوهري في حياة أبنائها، بل قبل ولادتهم وأعني هنا ما تعانيه الأم في أيام الحمل الأولى، وتستمر معاناتها ويستمر دورها الجوهري في ولادتها ثم نهاية الحضانة وهكذا في فترة التنشئة التي تتولاها الأمهات بشكل كبير، وأنا منهم.
وما أريد الوصول إليه هو أن دور الوالد لا يقل أهمية عن دور الأم فمع غيابه الشكلي الظاهري فإن الوالد يظل سرًا من أسرار نجاح أبنائه. على أن هذا الغياب للأب عن أسرته تفرضه ظروف الحياة وظروف العمل لكسب الرزق وتأمين العيش الكريم الذي يعد عبادة من العبادات وصدقة من أعظم الصدقات. ولذا أقول إن دور الآباء يختلف فطريًا عن دور الأمهات؛ كما أن وجود الأب يشكل دعمًا نفسيًا كبيرًا في حياة الأبناء، ولاسيما إذا كان مفكرًا وداعمًا وسندًا لأبنائه. واليوم وبعد مروري بعدد من الأحداث العظيمة على المستوى المهني والشخصي وفقدي لعدد من الأعزاء من أسرتي أجدني أعود بالذكريات إلى ذكرى فقد السند لكل الأسرة بحكمته وحبه وحزمه، ولمن كنت أستند عليه في ملماتي بعد الله عز وجل، ولمن كان يفرح لإنجازاتي وأعلم يقينًا أنه سيكون أسعد بها مني، وكم أتوق لتلك التوجيهات الصادقة التي كان يوجهنا بها ولتلك النصائح التي كانت تتدفق بكل حب وأحيانًا بكل حزم في حال ارتكب أحدنا أي خطأ! وكأنه كان يتمثل قول شاعر قديم:
فقسا ليزدجروا ومن يك حازمًا​​ فليقس أحيانًا على من يرحم
فليت الآباء لا يموتون، ليتهم يخلدون! لكن الموت خاتمة الحياة والنهاية التي ينتهي إليها كل البشر وكل الأحياء.

وفي ختام هذا المقال أهمس في سمع كل من فقدوا أحبتهم، ولا سيما آبائهم وأمهاتهم، فأقول الحمد لله نحن موعودون باللقاء الأبدي بهؤلاء الأحبة في اليوم الآخر، نلتقي هناك أرواحًا وأجسادًا، ولدينا عقيدة راسخة بهذا فأسأل الله لكل والد ووالدة نعيمًا مقيمًا لا يحول ولا يزول نظير تربيتهم وعنائهم وصبرهم على متاعب الحياة والتربية. حقًا، حينما نبتلى بفقد حبيب رسخت محبته ومكانته في قلوبنا فإن ذكريات كثيرة ومشاهد عديدة ومواقف نبيلة تتزاحم في القلب والعقل، ولكن ديننا هذب هذه المشاعر وصبغها بصبغة الصبر على المصائب وإنما الصبر عند الصدمة الأولى “الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون” (البقرة، الآية 157).

جامعة الامام عبد الرحمن بن فيصل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى