قِفا نَبكِ مِن ذِكرى حَبيبٍ وَمَنزِلِ …. بِسِقطِ اللِّوى بَينَ الدَّخولِ فَحَومَلِ
هكذا وقف امرؤ القيس يبكي على أطلال منزل الحبيبة التي عشقها أو لنقل أطلال مكان هو أحبه .. وعندما كنت طالبًا في الثانوية، وقرأنا في الشعر الجاهلي فإن معظم الشعراء في تلك الفترة كانوا يتغنون بالمكان حتى درجة البكاء، وبقدر إعجابي بالجانب الإبداعي والبلاغي في تلك القصائد إلا أني كنت أرى أنها صور مبالغ فيها، وكيف يمكن لشخص أن يبكي على جدار مكان، وبلا شك فإن زمان امرؤ القيس قد انتهى.
لكني اكتشفت كم كنت مخطئًا في ذلك …
دعوني أحكي لكم حكايتي التي استذكرت فيها امرؤ القيس وزهير بن أبي سلمي وعمرو بن ربيعة….
أول مدرسة التحقت بها كانت مدرسة الخبر الأولى في مدينة الخبر في المنطقة الشرقية بالمملكة العربية السعودية لأن والدي -رحمه الله- كان يعمل هناك… أذكر أن المدرسة كانت في مبنى صغير أخضر اللون داكن يبدو وكأنه أسود وفي يوم أعلنوا أن المدرسة ستنتقل الى مبنى جديد ليس بعيدًا عن المبنى الحالي، وفي صباح اليوم المحدد تجمعنا نحن الصغار طلبة المدرسة ومشينا إلى المبنى الجديد الذي كان أكبر من القديم ربما بمائة مرة وعندما وصلنا الصفوف كانت هناك مفجأة تنتظرنا وهي أن في الصفوف هناك كراسي وطاولات أو أدراج، بينما كنا في المبنى القديم نجلس على الحصير فوق الأرض …
هذه المدرسة لها في قلبي أجمل ذكريات الطفولة؛ حيث أذكر من أصدقاء الطفولة خالد سعد النصار وخالد الخليوي، وحسين الصوفي وصالح النحاس ومحمد بغلف … وأذكر من بين المعلمين أستاذي الكبير وجارنا الأستاذ عبدالله فرج الصقر وكان يدرسنا رياضة أو كنا نسميها حصة الألعاب، وكذلك معلمي المرحوم الأستاذ شمروخ ومحمد العويدان … أكملت الصف السادس في هذه المدرسة ثم انتقلنا في رحلة البحث عن الرزق إلى البحرين لأعيش مرحلة أخرى في مدرسة الهداية ثم إلى جامعة الكويت ….
عدت مرارًا إلى الخبر والدمام وكانت كلها زيارات سريعة، ولكن في السنوات الأخيرة شعرت بحنين غريب للتجول في الخبر وزيارة مدرستي التي علمت أنه تم تغيير اسمها .. وفي العام الماضي 2022 استجمعت شجاعتي وذهبت إلى الخبر وتركت السيارة وبدأت السير على الاقدام محاولًا استحضار الذاكرة .. ذاكرة الطفولة، وقادتني قدماي إليها … رأيتها … نعم هاهي أمامي .. هذه مدرستي كما هي لم تتغير…. مشيت حول السور حتى وصلت بجوار الباب…. فرحتي كانت كما كنت في الصف الأول عندما انتقلنا إلى المبنى الجديد.. فرحة طفل … وفجأة وجدت نفسي أبكي … بكيت فعلًا … ثم وضعت يدي على السور وقبلت السور .. فعلًا قبلت سور مدرستي … وكنت حريصًا أن لا يراني أحد فيقولوا هذا رجل به مس من جنون … ومرة أخرى احتضنت الجدار وأنا على بعد خطوات من بوابة المدرسة ولكني لم أجرؤ على الدخول … وفجاة شاهدني أحدهم … فاقترب مني مسلمًا علي وأنا استجمعت قوتي وردت عليه السلام ولساني حالي يقول لم أفسدت علي خلوتي …. ثم قال … رأيتك تتلمس السور وكأنك تحتضنه فما قصتك … فلم أجد بدًا من أن أبوح له الحقيقة وقلت له بصوت متهدج .. هذه مدرستي .. انا درست هنا، فسالني هل تريد الدخول … وهنا شعرت كان شخصًا يعطيني هدية عظميمة … فقلت له نعم … وهنا قدم نفسه فقال إنه مدير المدرسة وقال “كنت خارجًا ولكني لاحظتك ولاحظت سلوكك الغريب وكيف كنت تمسك وتلمس السور فكان لا بد أن أسألك”.
ودخلت المدرسة وهنا شعرت بقشعريرة مازالت تنتابني عندما استذكر تلك اللحظة … كنت أبكي من الداخل فرحًا … أخذني إلى اول غرفة وكان اسمها “غرفة المربي الفاضل عبدالله فرج الصقر” يا إلهي.. إنه معلمي وجاري … دخلت القاعة وهناك بعض المعلمين فشربت الشاي والقهوة معهم وتحدثنا ثم أخذوني في جولة قصيرة بعدها خرجت لأبحث عن سيارة لأعود إلى فندقي …
نعم لقد تذكرت امرؤ القيس .. لم تكن هناك مبالغة في شعر العرب القديم كانوا صادقين في التعبير عن مشاعرهم تجاه المكان … بكيت كما بكى امرؤ القيس … بل إني قبلت الجدار كما كان يتمنى عنترة بن شداد تقبيل السيوف… إنها لحظات يصعب وصفها وربما كلمة حب ومتعة لا تكفيان …
دعوة لكم أحبتي .. زوروا مواقع طفولتكم .. المدرسة .. تواصلوا مع معلميكم … وسأحدثكم في مقالة أخرى عن زيارتي للأحساء بحثًا عن معلمي الأستاذ شمروخ رحمه الله..