نعود بالذاكرة السياسية إلى العام ١٩٩٠ وبالتحديد في الأزمة الخليجية، ونبحث عن الأسباب خلف قيام الجيش العراقي باجتياح الكويت بأمر من الرئيس العراقي آنذاك صدام حسين فنجد أن الخلافات الحدودية التي تغذيها مكامن النفط هي السبب الرئيسي الذي جعل العراق يتهم الكويت بأنها قضمت أراضيه وسرقت نفطه من حقل الرميلة ويطالبها بتعويضات مليارية، لم تكن تلك الاتهامات وليدة الموقف بل إنها جاءت في أعقاب دخول خفي للولايات المتحدة على خط الأزمة من خلال زيارة سرية للسفيرة الأمريكية في العراق آنذاك إبريل غلاسبي التي أعطت الموافقة المبطنة سياسيًا لصدام حسين باجتياح الكويت عندما قالت: (لا نملك رأيًا حول الحدود بين العراق والكويت) فكانت تلك العبارة التي لم يعرف عنها الكثير هي الضوء الأخضر؛ لتحريك آلة الحرب بلهجة دبلوماسية، وكان الهدف هو إحداث صدامات عربية عربية ليتسنى للولايات المتحدة تنفيذ مخططاتها الرامية لخدمة إسرائيل.
لن أبحر كثيرًا بالذاكرة السياسية لاسترجاع صفحات التاريخ حول أزمات المنطقة؛ فقد ذكرتُ هذه المقدمة للاستشهاد على إمكانية استخدام الخلافات الحدودية على مكامن النفط في تحقيق مكاسب سياسية واقتصادية لأطراف أخرى، والشيء بالشيء يذكر عندما يتم الحديث عن حقل الدرة؛ فقد يظهر في العلن أنه خلاف حدودي فقط على حقل النفط إلا أن هناك أهدافًا إيرانية وراء تحريك هذا الملف، وفي هذا التوقيت بالتحديد منها ما هو سياسي ومنها ما هو اقتصادي.
منذ أن تم اكتشاف هذا الحقل عام 1967 وهو مهمل ولم يتم اكتمال الأعمال فيه، وفي العام 2022 وقعت المملكة والكويت اتفاقية لتطوير حقل الدرة وجلب استثمارات ضخمة واستقطاب لرؤوس الأموال فيه وتوفير فرص العمل بإشراف وإدارة وتشغيل شركة عمليات الخفجي المشتركة، ومنذ ذلك الحين وضعت إيران هذه الاتفاقية على الرف ولم تتحدث عنها ولم تعلن موقفها رغم أنه ليس لها علاقة بهذا الحقل لكي يكون لها موقف أصلًا تجاهه، إلا أنها تريد استغلال هذا الملف في الوقت المناسب لها للحصول في أقل الاحتمالات على ورقة تفاوضية في الخليج بعد فقدها الأوراق التفاوضية عقب توقيع الاتفاق الذي تم برعاية الصين في المنطقة وأنهى غالبية أوراقها التي كانت تستعملها في ابتزازاتها السياسية، بالإضافة إلى ما قد يحققه حقل آرش كما يحلو للإيرانيين تسميته من مكاسب اقتصادية لإيران، والتي قد تخفف عن كاهلها من ضغط العقوبات الاقتصادية الدولية المفروضة عليها في حال تحقق شيء من حلمها بالتموضع في جزء منه.
الجدير بالذكر أن الكويت عام 2003 دعت إيران للجلوس على طاولة التفاوض لترسيم الحدود بين البلدين إلا أنها لم تلقَ آذانًا صاغية من الإيرانيين لعدم رغبتهم في ذلك، حيث إن ترسيم الحدود يقطع الطريق أمامها لمواصلة افتراءاتها وادعاءاتها للتطفل على الثروات الطبيعية في منطقة الخليج، ولذلك جاء الرفض الكويتي لفكرة تقاسم الحقل مع إيران حاسمًا جليًا في بيان أن حقل الدرة خارج حدود إيران البحرية وليس لها فيه أي أحقية، وأن الحدود في الخليج العربي لا يمكن أن تُقاس على الأساس القاري كما تريده إيران.
جاء الدور السعودي في الموقف حازمًا حكيمًا لإدارة واحتواء الأزمة وعدم خروجها عن مسار التفاوض بين الأطراف المعنية، والأخذ بالاعتبارات عدة أمور منها ما يتعلق بالتهدئة في المنطقة، ومنها ما هو اقتصادي وسياسي وبما يتوافق مع السياسة النفطية للمملكة في إطار منظمة أوبك، فقد صدر بيان سعودي بأن حقل الدرة سعودي كويتي مشترك لا ثالث لهما ودعى الطرف الإيراني للتفاوض وأوضح أن السعودية والكويت هما طرف تفاوضي واحد، وذلك لتعزيز الموقف الكويتي ولسد ثغرات التفاوض الذي تريد إيران من التفاوض مع الكويت بمفردها، وقد جاءت دعوة المملكة العربية السعودية الطرف الإيراني للتفاوض لمنع دخول أطراف دولية على خط الأزمة والأضرار بالسياسة النفطية للمملكة أو الخليج ولا تُستغل لإحداث زعزعة أو نزاع داخل منطقة الخليج.