تمضي الأيام ولا تبقى إلا الذكريات والعلم الطيب، ولكن أحيانًا مع كل الألم والأسف يبقى أيضًا العلم غير الحسن. هكذا الحياة تكون في خلوة مع نفسك تُراجع شريط الذكريات واللي فات والذي أمسى مجرد حروف من الحياة. كل حرف يعني لك الكثير أيام سرت فيها على اللظى، وأيام ربما نادرة حلمت أنك تسير على الحرير. أحلام تحتاج لنوال حتى تتحقق. ولكن قد يقول البعض في المشمش أو حامض يا عنب. ويرد عليه سميرة يا رجل ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل. أصحاب حارة جمعتهم تلقائيًا عناصر من الحياة. هل هو الحظ أم الجغرافيا أم البيئة أو التماثل في العيش الذي رغم شطفه نحسبه هنيًا. وإلا كل تلك مجتمعة فرضتها الظروف المتشابهات. ودارت الأيام بين رضا وخصام. وفي مفترق طريق أحدثته دواعي الدراسة أو التنقل. تباعدت الأبدان وإن بقيت القلوب علي بعضها تألم وتفرح عن بُعد. وتتنقل من هنا وهناك إلى هنا وهناك. ولكن يظل الحنين لما سبق وفات. وتحضرني هنا أبيات وأية أبيات. يقول أبو تمام..
البَينُ جَرَّعَني نَقيعَ الحَنظَلِ
وَالبَينُ أَثكَلَني وَإِن لَم أُثكَلِ
ما حَسرَتي أَن كِدتُ أَقضي إِنَّما
حَسَراتُ نَفسي أَنَّني لَم أَفعَلِ
نَقِّل فُؤادَكَ حَيثُ شِئتَ مِنَ الهَوى
ما الحُبُّ إِلّا لِلحَبيبِ الأَوَّلِ
كَم مَنزِلٍ في الأَرضِ يَألَفُهُ الفَتى
وَحَنينُهُ أَبَدًا لِأَوَّلِ مَنزِلِ
ويقول شاعر:
نزلنا ها هنا ثم ارتحلنا ..
كذا الدنيا نزول وارتحال
يظن المرء في الدنيا خلود ..
خلود المرء في الدنيا محال
فتلك طبيعة #الأيام فينا
فراق بعد جمع واكتحال
وما أعمارنا إلا شموس
وهل للشمس بد من زوال.
وتمضي الحياة ونسير في أعطافها تسوقنا مقاديرنا، ونحن في معظم الأحيان لا نملك زمام راحلتنا. ولكن نرضى بما قسمه الله ونحمده على فضله. فكل ما يأتي من عند الرحمن هو رحمة ولو كانت متعبة لنا إن لا قدر الله أخذناها على ظاهرها، ومن الفصيح إلى الشعبي الذي أيضًا يعزف على هذا المقام والذي له تقام ذائقة.
كل من عاشر وحفر بأظافره جدران الطين؛ ليكتب عليها شيئًا من أنات الشجن والحنين. فربما كتب نشأت روحي هنا وسأذهب بجسدي وبقايا روح لن تكتمل. فهنا الحب والصبا ودفء الحياة في عز بردها. وربما لو رآه صديق وهو عائد في زيارة للحي القديم؛ فبادره قديمك نديمك ولو الجديد أغناك فينظر إليه وكأنه يعتب ولسان حاله يقول: وما أنا بالمصدق فيه قولًا.
اسمحوا لي ورغم ما يمر في حياتنا من منعطفات حتي بعضها الجميل منها؛ فإننا نظل نحِن للبدايات مهما صار ومهما تم. وقد قالوا في الماضي “القديم نديم”، وفي الحاضر البعيد تداول المجتمع مقولة: قديمك نديمك، والتي استهلت بها الشاعرة المخضرمة الرائعة (ثُريا قابل) أغنيتها قديمك نديمك لو الجديد أغناك. وأي جديد يغني عن أول همسة وحرارة لمسة حانية فيها من البوح الشيء الذي لا تترجمه قصائد ولا إبداعات نثرية. فالإحساس دائمًا سيد الموقف. هذا ما غناه الفنان الراحل فوزي محسون صاحب الإبداعات التي لن تتكرر ورفيقة دربه الفني الكاتبة المخضرمة.. عندما قالا:
قديمك .. نديمك .. لو الجديد اغناك
ياللي سابح في نعيمك .. فين نصيبي من هواكً
يا خساره ضاع ودي .. ضاع حبي .. والحنان
ما بقى لك شي عندي .. إلا ذكرى للزمان
ياللي سابح في نعيمك .. فين نصيبي من هواك.
وطالما أتينا على ذكرى الأخوين رحباني السعودية فوزي وثريا اسمحوا لي ولو خرجت قليلًا عن سياق المقال. أن أمر على واحدة من أجمل ما جمعهما من كلام ولحن:-
من بعد مزح و لعب أهو صار حبك صحيح
أصبحت مغرم عيون وأمسيت وقلبي طريح
وأخجل إذا جات عيني صدفة في عينك وأصير
مربوك و حاير في أمري من فرحي أبغى أطير
توحشني و أنت بجنبي وأشتاق لك لو تغيب
وأحسد عليك حتى نفسي وأخشى يمسك غريب.
ما هذا الغرام. الذي بدأ بمجرد فكرة أنهما أحباب ومع الوقت وإذا بالهزل يصبح حقيقة بل أعمق. وكأني بكل حرف بكلمة الهيام أصبح قصة بذاته، واخترت الهيام لأن كلمة حب فقط من حرفين وعشق من ثلاثة والهيام أربعة، وهو يعتبر أعلى درجات الحب وكل حرف من حروفه علم على رأسه نار في الصبوة والغرام، وهناك الاستكانة وهي من ستة أحرف، وهي درجة من درجات الحب أيضًا ولكن لم أحببها. شعرت بأنها ثقيلة علي النفس كما هي تعني الذل للمحبوب؛ فالحب إذا ذل زل. واستكانة بالمناسبة في بعض دول الخليج هي بيالة أو قدح الشاي؛ وكأنه أُريد بها استكانة “ذل” قدح الشاي وعدم المقاومة. عندما يسيل على جوانبه بقايا من رحيق المبسم.
والذي يقول فيه الشاعر:
رَحِـيـقُ الثَّغـْرِ فِـي شَفَتَيْكِ سُكَّرْ
وَفِـي عَـيْـنَـيْكِ وَالنَّظَراتِ خِنْجَرْ
عَـلَى خَـدَّيْـكِ تَـنْـتَـحِرُ القَوَافِي
وَمِـنْ لَهَـبِ الجَـوَى اللهُ أَكْـبَرْ
وقد يقول قائل أين الشعر الشعبي من الفصيح، وهنا قد نضطهد بعض الشعر الشعبي لو لم نشر إليه. فهو شعر لا يخلو من الصور التي قد تتساوى في المعني والأحاسيس مع أفضل أبيات الشعر المقفي والفصيح. وهنا لا أقول أبدًا من حيث القيمة الأدبية والأوزان والقوافي الخالصة. ولكن أتكلم عن الإيصال المباشر من الحرف الشعبي إلى القلب. زد على ذلك إذا زُين هذا الحرف بحرف موسيقي يلهبه فيدغدغ به قلوب العشاق فيروي ظمأها المحموم بتلقائية وبدون رتوش وكبرياء بعض الجمل والحروف التي قد تكون أدسم، ولكنها ليست في الذائقة أطيب. جميلة هي تلك الأغنيات التي أرسلتها أفكار ولواعج كتاب الشعر الشعبي السهل الممتنع. لا نستطيع أن نفند الناس وخاصة من حيث المشاعر والأحاسيس. إلى علية قوم وشعبويين. فالحب أيًا كانت درجاته وتنوعه ومشاربه لا يعرف المقامات. بل يخضع وبكل أريحية للقلوب والمشاعر، ولا شيء يعلو على آهة محب أو أنةً مفارق.