آراء متعددةمنتدى القصة

العليو، يبعث الجماد من موته في (غواية المساء)

(غواية المساء) مجموعة قصصية للقاص الأستاذ أحمد العليو، تحتوي على خمسة عشر قصة قصيرة، لم يكتف أسلوب مجمل قصصها فقط بالوصف الذي يشير – في كثير من الأحيان – إلى الأمر بنحو إيحائي أو مجازي في سرد يحركها ببطء وثبات وسهولة، ولا إلى فقط تسلسل منطقي للأحداث بمشاهد قصيرة تغلب عليها الجمل القصيرة، ولا فقط إلى قلة حضور الحوار الذي اعتمد على السرد الذي أعطى القصة عمقها ومضمونها وشكَّل حركة المشهد السريع الخطى فيها، حتى وضعنا أمام نسيج لحياكة مميزة تنحو إلى العثور على إيقاع قصصي مختلف.. بل تضمن الأسلوب صناعة مميزة، وهي منح معايير وصفات الأحياء على مكونات المشهد (الجماد) كي يصيرها وكأنها الكائن الحي الذي يتأثر ويؤثر.

مما أتفق عليه النقاد أن للبنية السردية (القصصية) عناصر تقوم عليها، ومن ضمنها عنصر (المكان).. والمكان هو الساحة التي يجري عليها الحدث، ويشتمل على المكونات المختلفة التي تظهر فيه حسب الحاجة، ومنها المكونات الحية، ومنها المعدومة من الحياة.

وما سنسلط عليه الضوء هنا، تلك المكونات المعدومة من الحياة، التي ظهرت في محيط العمل الفني السردي لغواية المساء، ووهبته تشكيل الصورة الحسية في ذهنية المتلقي.

فـ(الأطباق، اللمبة، المحطة، القمر، الشمس، السماء، النسيم، الشارع، السيارة، الأوراق، عين الماء، الحديد، الجدران، الغيوم، الروج، الرسائل، المرآة، النافذة، القلم، الصحف.. الخ).. كلها عناصر غير ممدودة بالحياة، كما تبدو ونعلم، لكن حينما يتناولها السارد الذي يعرف كيف يُحسن التعامل معها، وله القدرة على التعبير بها وعنها، بحيث يجعلها ذات إحساس مرهف، وشعور شفاف، وإدراك كبير، وذات ردود أفعال، تصبح عناصر ذات استثارة قيمة، تمنح كاتبها لغة خاصة شديدة الدهشة، ذات مفردات يحرص على استخدامها دائماً ليحقق بها تراكيب معينة تعطيه شخصية سردية مستقلة يُنظر إليها باعتبار.

وبالنظر إلى قصة (العسو) وهو العذق الذي يحمل تمر النخلة، وقد قطع منها لخلوه من التمر فتيبس، وتم تحويله إلى مكنسة للساحات الرملية غالباً.. نجد السارد يقول (العسو أنَّ، بكى، ولم ترحمني)، فقد وهب العسو، الذي سُلبت منه الحياة، صفة الأنين والبكاء كالإنسان.. وهذه محاولة لتبيان تبادل الدور، بين أن تئن وتبكي شخصية القصة وتُظهر وجعها الكبير، فإن العسو قد أخذ الدور نيابة عنها، لعلو درجة الوجع الذي تلقته، وهذا يعد شعوراً فائقاً من القاص الذي أصبح قادراً على أن يوصل القارئ إلى مناطق شعورية عمقية رهيبة، تشعره بمحق وانعدام الرحمة من ذلك الضارب لا بطريق الشخصية الحية ذاتها بل عن طريق ماهو معدوم من الحياة . وهكذا في قصة (الحرباء) يقول (لمبة البانزين هددتني بالتوقف)، فقد أعطى اللمبة صفة التهديد، وفيها أعطى (المحطة) صفة النوم بقوله (المحطة النائمة بجوار الطريق)، وفي قصة (المشموم ) يذكر أن (الشارع لا يهمس بأية آهة) و(ترتطم الكرة على وجهه دون تذمر، بل عبق الابتسامة يبلله) وفي قصة (حفر لا تنضب) تارة (السيارة تعوي) وتارة أخرى تجد (الكرسي الحديدي يكح) و(جدران البيوت تضحك) في قصة (فحيح اللحظات) ثم في قصة (رسالة من قاتل) (الغيوم ترجم بالغضب) وأخيراً ( الروج يداعب الشفاه، ومشاعر الفرح تتسارع من فوهة أحمر الشفاه) و(المرآة تطلق التنهدات) في قصة (الجريمة)، ومجمل هذه التعابير تخلق الوهم لدى القارئ بأن ما يقرأه ويراه، ليس إلا هو الواقع بعينه، أي صار لتلك المكونات وتراكيبها، لها أثرٌ كبيرٌ في إيجاد معاني غزيرة، بحيث تشعر، تدرك، وتتحرك وفق ما تصير عليه الشخوص وما تتطلبه، والسارد وحده من يرى ذلك، لا القارئ، وهو يتفضل عليه بالإبانة بهذا الشكل. فالسارد من الجانب النفسي له دور كبير في اختيار التراكيب المناسبة، واللغة هي مرآة عاكسة لخصائص وصفات المتكلم وتكشف طبعه ومزاجه تظهر ليس على المكونات الجامدة فقط، بل حتى على المكونات الحية كالشخوص والأشجار والنخيل وغيرها كما يقول (النخيل تحدق، أو تتمايل بغنج، أو تراقب).

وعندما نقرأ أيضاً في قصة (سخرية القمر) حين قال (القمر يرمقني بسخرية) (ارتقى نظري إلى السماء إلى القمر، خاطبته، فمد لسانه سخرية مني) (.. القمر، يرقص رقصة ساخرة) (ستفضح الشمس هذا الرجل).. نجد أن حالة العناصر المشهدية التي ظهرت عليها، تعني أنها انعكاس لحقيقة أخلاق الشخصيات وشمائلهم وأساليبهم في الحياة، سواء ما ظهر منها وما بطن، وهي من ضمن مجموعة القوى والعوامل التي تحاول أن تُكشَف بها شخوص المشهد وتعريها متأثرة بتصرفاتها التي تجري عليها، فيوجهها السارد وجهته المعينة.

فمِن الكتّاب مَن يعمل بمثل هذا الوصف ليدل على مقدرته على مسك زمام اللغة وتجاوز أسلوبه الأسلوب العادي، كما يبين مقدرته على تصوير المشاهد تصويراً حياً ناطقاً ويقدم صورة جميلة مدهشة في ظاهرها أنها طبيعية، فتدخل تلك المكونات بهذا الشكل في حسابه بوصفها عاملاً مؤثراً في المتلقي مباشرة، إصراراً منه على ديمومة الاستعمال، مما حداه إلى أن يتعدى ما على الأرض كما صور القمر بهذا التصوير ثم يذهب إلى (النسائم) التي تركت الأشياء (بغبطة) و (السماء تبتسم) في قصة (المرآة لا تعكس البياض).

وتستطيع أن نقول بأن كل هذا الفعل يعتبره السارد أسلوباً فنياً يستعمله للوصول إلى تقريب العمل القصصي إلى أذهان القراء بجعله ممكناً أو محتملاً، والأستاذ العليو قاص متميز منفتح أستطاع أن يستلهم قوة سرده من تأثره بالحياة المحيطة به، ومن الظروف والأحداث التي تجري حوله، وقد اختار لها الألفاظ التي تتناسب معها محاولة منه أن يتميز بأسلوبه الخاص، لأنه متمكن من لغته وأساليبها، بل فطناً لطريقة البناء، مما حدى به أن يأتي بها على هيئة نتاج سردي شاعري يثير لدى المتلقي الرغبة الشديدة للتلقي والتأثير الكبير معاً.

وبما أنني ملتفت إلى مسألة إقران الجامد بصفات حسية رهيفة تهبها صبغة الكائن الحي وتؤهلها للتأثير والدهشة وتحقيق الهدف المبتغى، وتثير في المتلقي إحساسات جمالية وانفعالات عاطفية تجعله أكثر تعاطفاً مع شخوص القص المطروحة، أي حضور المفردات المصاحبة للشعور التي تتوافق ومكونات المشهد، وفهمي منذ زمن لها بأنها صفة تتوافق مع صادق الشعور… من هنا، منذ كتابة أول قصة لي، إلى مجموعتي القصصيّة الثامنة بل ومجمل رواياتي، قد عملت بها في أسلوبي السردي للوصول إلى كل السمات التي ذكرتها آنفاً بل أكثر.

هذا والله الموفق.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى