جميل أن ينص نظام الموارد البشرية على حوافز مادية ومعنوية يتم بها مكافأة الموظفين المتميزين والمبدعين في أداء أعمالهم اليومية، شريطة أن تكون أعمالهم المتميزة ملموسة على أرض الواقع، وتؤتي بثمار إيجابية وإبداعية في ممارسة مهام واختصاصات الإدارات التي يعملون بها، وبشكل يلمسه زملاؤهم الموظفون ويدركه متلقو الخدمات من هذه الإدارات، لتكون هذه الميز تحفيزًا وإلهامًا لهم ولزملائهم في القيام بواجباتهم الوظيفية بشكل فاعلٍ ومقتدر، ومن هنا نشأت فكرة الحوافز المادية والمعنوية ومنها الترقيات الاستثنائية، وهي مفاهيم راسخة في الإدارة الحديثة لرؤية الدولة المباركة -رعاها الله- في 20/30 وتلاقي دعمًا كاملًا من ولاة الأمر -يحفظهم الله-، والشواهد ملموسة بوقائع ثابتة، حيث تم تغيير بعض القيادات في عدد من الوزارات والهيئات لعدم إنجاز إداراتهم لملفات لها الأولوية، فالإنجاز والتغيير للأفضل هو المعيار الحقيقي لصلاح المسؤول من عدمه.
إلا أنه يخفى على بعض المشرعين لهذه اللوائح مدى النفع والملائمة المرحلية لبعض هذه الحوافز لواقع الحال الذي تعيشه كثير من الجهات المعنية بتطبيق أحكام تلك اللوائح، ومن أهمها عدم المقدرة على التطبيق الفاعل لمعايير العمل المؤسسي والخوف من عدم وجود قيادات ناضجة في تلك الجهات تضمن عدم انحراف السياسات التي من أجلها شُرّعت هذه الحوافز والميز، ففي ظل غياب أو ضعف معايير العمل المؤسسي ستكون هذه الحوافز والميز محلًا يرتع فيه الفساد بكل معانيه وأشكاله، والمتتبع للواقع يعلم أن كثير من الجهات لا زالت في بداية الطريق في العمل المؤسسي.
فمن غير المقبول القيام بترقية بعض الموظفين بهذه الترقيات الاستثنائية والعمل المؤسسي بإداراتهم التي يعملون بها يتسم بالضعف وهو محل لكثير من الملاحظات الإدارية والممارسات الخاطئة، وفي حال وجدت هذه الترقيات الاستثنائية لموظفين بهذه الإدارات ذات الخدمات السيئة ستكون يقينًا نتاج لأسباب لا علاقة لها بالعمل المهني للموظفين المعنيين بتلك الترقيات، وبالمختصر المفيد ستكون نتاجًا مؤلمًا للمحاباة والمحسوبية، وهي عادةً ما تكون في الدوائر المقربة من القيادات العليا لقُربهم من متخذي القرار وقدرتهم على كسب الود والرضا بالمداهنة (ضرب الجوخ) وتصنع الولاء والاجتهاد غير المثمر، ولهذا كثيرًا ما تجد هؤلاء الموظفين وخاصة المسؤولين منهم يعملون لصالح المسؤول لا لمصلحة الإدارة، فتتوقف عندهم ينابيع المبادرة لحل الاشكالات والتحديات في إداراتهم، ولا يهتمون إلا بشيء واحد وهو؟ ما الذي يقربهم من متخذ القرار، وما الذي يحبه وما الذي لا يحبه، لذا تجدهم عند طرح مسؤوليات العمل والمشاكل التي تعتريه، وهي من صميم مهامهم كثيرًا ما يرددون كلمات لا أستطيع عمل أي إجراء إلا بتوجيه من الأعلى، متخذ القرار لم يطلب مني ذلك أو لا يحب ذلك، أو القيام بالأمر سيحرج موقفي من المسؤول فلان، وبالطبع لا يحبون إبراز هذه المشاكل للرئيس الأعلى منهم لخوفهم من توجيه اللوم عليهم واتهامهم بالسلبية، لاعتقادهم بأن المسؤول الأعلى لا يحب أن يرى أو يسمع إلا عن الجانب المضيء فقط من إدارته دون المظلم، وهكذا تتراكم الأمور والمشاكل في الإدارات التي يعملون بها أو يرأسونها دون تحمل عباءة المسؤولية والبحث عن حلول لنقاط الضعف والمشاكل المتراكمة والخدمة السيئة، فهمهم الوحيد رضا المسؤول لأنه الباب الأقرب للحصول على الميز المالية والترقيات الاستثنائية، وقد يحالف البعض منهم الحظ في الحصول على ثلاث مراتب (ترقية عادية وترقية استثنائية) في أقل من ثلاث سنوات، وهو أمر معيب ومخجل بالفعل لواقع مؤلم، وكيف لا يكون كذلك وملفات الترقيات بطبيعة حالها في كثير من الجهات مشكلة شائكة لقلة الشواغر وتوقف السلالم بها عند الكثير من الموظفين، إلا أن باب الحظ مفتوح لهذه الطبقة المخملية بالاستحداث أو بالتحوير أو التعديل أو الترفيع، فرضا المسؤول في الجهة واستلطافه كفيل باجتيازهم لكافة التحديات حتى ولو كان أداؤهم لا يذكر ليشكر فهم دائمًا لا يبادرون بإيجاد دراسات وتقارير تنتهي بحلول للمشاكل في إداراتهم بل ينتظرون الحلول من الأعلى دون القيام بأي مجهود يذكر عدا سوالف الاجتماعات المغلقة التي تثمر عادة عن إيجاد حلول للمشاكل لا تشفي جرحًا ولا تلامس جذرًا، وتنتهي عادة بتوجيه (مشو حالكم)، (العمل لا يقف عند حل هذا الأمر الشائك)، (هذا الأشكال تعاني منه الكثير من الجهات) وهكذا، وكأنهم يقرأون افكار متخذ القرار ورغبته في ترحيل هذه الملفات العالقة إلى من يتولى الأمر بعده لرئاسة هذه الجهة المنكوبة.
وكنتاج طبيعي عند رحيل هذا المسؤول وتعيين مسؤلًا جديدًا مكانه سيُلامس مشاكل هذه الإدارات المتسمة بسوء الخدمة وجفاف ينابيع الإبداع وضعف الإجراءات وركود المعاملات بشكل غير مبرر وسيعمل على إزالة هذا التشوه بإبعاد تلك الطبقة المخملية للمسؤول السابق، والخوف كل الخوف أن ينجرف كسابقه إلى إيجاد طبقة مخملية جديدة من الموظفين الطامحين لتلك الميز والترقيات الاستثنائية بثقافة (سم طال عمرك، واللي تراه وتشوفه هو الأصح) ليتم تلميع الأعمال بتلييس الإشكال بدلًا من الوقوف على الإشكالات وحلها.
وفي الأخير ستكون ثمرة هذا (الخنبقة) الإدارية ثمرة فاسدة تفسد ولاء القيادات المهمشة من ذوي القدرة والكفاءة الذين تربوا على احترام الذات وتحمل عباءة المسؤولية، إذ إن تقدير المسؤول عندهم ليس بكثرة التصيد للقاء به والقرب منه (وضرب الجوخ له) بل بالعمل الجاد القائم على جودة الإجراءات وكفاءة الخدمات المقدمة والإبداع في إيجاد الحلول لكافة الصعوبات والتحديات التي تعتري بعض الملفات في إداراتهم، وهم يعلمون يقينًا بأن طرحهم الجريء لمعالجة العوائق والتحديات قد يؤدي الى عدم رضى القيادات النرجسية أو الضعيفة والسطحية عنهم -وهي من الصفات المذمومة في علم الإدارة وصناعة القادة – ليتم التأثير المباشر على ولائهم الوظيفي بدلًا من أن تكون تلك الميز المادية والمعنوية نتاجًا طبيعيًا لما تلمسه الجهة قبل المسؤولين بها من جودة أعمالهم واستحقاقهم لها عن جدارة واقتدار، وليكون مصيرهم التهميش والإبعاد ووصفهم عادة بالسلبية والسعي لإحراج المسؤولين بالجهة، بل واتهامهم أحيانًا بالتواصل مع الجهات الرقابية لتشويه سمعتهم بين زملائهم؛ وكأنها خيانة يستحق عليها التهميش والإبعاد.
وعليه كم تمنيت من الجهة المسؤولة عن صدور اللائحة المشرعة للترقية الاستثنائية التريث حاليًا في وجود هكذا ترقيات حتى تكتمل منظومة العمل المؤسسي بالشكل الذي يرضي الجهات الرقابية، ويلمس فيه رضا المتلقي للخدمات المقدمة من تلك الجهات الحكومية أو الجهات المستهدفة بالخصخصة، فليس بالضرورة إصدار كافة محتوى اللوائح جملة واحدة في ظل وجود عوائق يخشى معها إساءة استخدام الصلاحيات بعيدًا عن الأهداف والسياسات التي وضعت لها، وكم تمنيت أيضًا عناية الجهات الرقابية بضرورة وضع ضوابط جادة للحد من خلط الأوراق، وضياع الحقوق في هذه الترقيات الاستثنائية، فلا يعقل أن يتم كسب ولاء عدد من الموظفين بالترقيات الاستثنائية مقابل ضياع حقوق مئات الموظفين، وترسيخ شعورهم بالظلم والمحسوبية، والتأثير المباشر على ولائهم الوظيفي.
0