استعرضنا في المقال السابق إخراج الذكر الفرنسي من الصندقة، واستبشر راعي الحمام بعملية إنتاج توازي الموجودة في الصندقة التي بالحوش. ثم قام بفتح الباب وأصبح الحمام يتنقل فوق السطح وعلى أطراف جدار المنزل وكل زوج يطير مع وليفه ما عدا الأنثى الفرنسية، أصبحت وحيدة في حالة يرثى لها بعد إخراج الذكر، فأصبحت تطير بمفردها وتأخرت في العودة للقفص قبل أذان المغرب ودأب القلق لدى الببغاء، وكان المحكر الخاص بها فارغًا مما جعل الحمام يهمس لبعض عن سر الغياب، والببغاء يرصد كل ما يدور. في منتصف الليل عادت الحمامة الفرنسية برفقة (ذكر أسود) غير مألوف في المنطقة مما جعل الحمام ينكر وجوده بينهم لا سيما وأن هديله غير مفهوم، فزاد هديل الحمام، من الذكر الغريب، مما أيقظ الببغاء بعد ما أخذه النعاس لدقائق معدودة، نزل للقفص ورأى الطائر الجديد، ثم طمأنهم وأخبرهم بأنه مهاجر من أفريقيا وكان الذكر البغدادي سهران ويترنم بموال:
اللي مضيع ذهب يمكن بسوق الذهب يلقاه، واللي مفارق محب يمكن سنة وينساه، أما اللي مضيع وطن وين الوطن يلقاه!. زعل الذكر الأفريقي منه غير أن الأنثى الفرنسية سرعان ما احتضنته في المحكر فأعطاها قطعة شوكولاتة، أعجبت بها وسألته من أين لك هذا؟ قال: من البلاد وشعر الببغاء بحالة تمرد وخرفنه داخل الصندقة تقودها الأنثى الفرنسية مع الذكر الأفريقي الذي أعجب بعيونها الزرقاء وطلب منها الهجرة من الصندقة فاشترطت عليه أن يقدم لها قربانًا يثبت محبته، وأن يكون مطيعًا لها بعد أن عرفت أنه كبير الحمام في بلاده فأهداها (خلخال) من ذهب ووضعه في ساقها وأصبحت مميزة عن مثيلاتها ويصدر منها صوتًا كلما تحركت، ثم سألته من أين لك هذا؟ قال: من البلاد، قالت إذًا بلادكم جميلة وخيراتها متنوعة قال: نعم ولكن تنقصنا بعض الإمكانيات، (تخرفن) الخال وأصبح مطبعًا لها ويهديها الذهب حتى سيطرت عليه وهي تنقل الذهب لبلدها، بعد أسبوعين فقّس البيض التي كانت تخبيه عن مربي الحمام فجاءت بزغاليل (شُقر) كانوا أجمل ما في المنطقة فانتشى الذكر الأفريقي وزارها في البرج غير أنها منعت دخوله ورؤية زغاليله إلا بعد أن يقدم لها هدية، انطلق كالبرق للبلاد وأحضر لها سبائك ذهب ومعادن متنوعة وسط استغراب من جماعته ورابطة الحمام الأفريقي، وتساءلوا فيما بينهم لمن هذه؟ ولماذا خيرات بلادنا لغيرنا؟وتكررت العملية مع كل حالة تفقيس وأصبح الذكر محل ريبة واتهموه بالخيانة في ظل أن وليفته الأنثى والزغاليل في البلاد لا يجدون قوت يومهم من الأكل والشرب، بينما الفرنسية مكتسية بالذهب من ساقها لرأسها فقرر الببغاء التواصل مع رابطة الحمام الأفريقي ويخبرهم سرًا بالوضع الحاصل، وأن الصندقة في السطح أصبحت مطمعًا للحمام الأوروبي والروسي والأمريكي. وكانت الأنثى الصنعانية صابتها الغيرة وقالت للفرنسية “الذي أعطاك بالكريك يعطينا بالملعقة” ثم همست في إذن الذكر الصنعاني”نشتي شوكولاتة” قال: جني لك من فين نجيب لك؟ قالت من صاحبك الأسمر، فذهب الصنعاني للأفريقي، وأخبره بوجود مؤامرة ضده وأن صاحب الصندقة سوف يبيع زغاليه الحلوين فرد عليه بصوت جهوري (ماتبييوا) ثم أخبره أن المربي صاحب الصندقة يحب الشوكولاتة واقترح عليه أن يحضر له كرتونًا فسافر الخال للبلاد غير أن هذه المرة أطاحت به الرابطة وعزلوه عن الرئاسة ووضعوه في قفص انفرادي، مما جعل الأنثى الفرنسية تصيح في القفص بعد أن فقدت كل الإمدادات التي كان يمدها بها، حاولت التهديد والتصعيد ولكن جماعة رابطة الحمام الأفريقي كانوا ثابتين على موقفهم.
ختامًا
انتهى زمن الوصاية وعصر الغاب في وقت متغير بحيثيات معاصرة كالوحدة والموقف الصلب والخطاب الأوحد؛ لحماية مقدرات الشعوب والتضامن لوقف كل صور الابتزاز ونهب خيرات القارة السمراء. مما حدا رابطة الحمام الفرنسية تجدد مطالبتها للانقلابيين للإفراج عن الذكر الشرعي بالنسبة لها.
حقَّاً وصدقاً ماقاله بعض السلف:
«إنَّ الكلمة إذا خرجتْ من القلب وقعتْ في القلب موقع الاستحسان؛وإذا خرجتْ من اللسان لم تتجاوز الآذان»
فما معنى هذا؟!
وما سرُّ استشهادي بتلك المقولة المأثورة الخالدة؟!
المعنى المُراد أنَّ القارئ هنا يتلقَّى زاداً أدبياً ثقافياً نفيساً ؛تحت مسمَّى (مذكرات)؛ يتلقَّاها من يديْ أديب إعلامي بارع ؛يدرك تماماً أين يكمن الجمال الإبداعي والكوني؛وبمَ يخاطب قرَّاءه ومحبِّي أدبه وطروحاته المتنوَّعة ..🌷
ولايمكن النظر إليها على أنَّها مجرد مذكرات عابرة سرعان ما يخبو وهجها
لذلك لن أذهب بعيداً إذا قلت عنها واصفاً :هي أشبه ما تكون بهطول السّحاب الماطر في فِجاج الأرض وشعابها وأريافها وواحاتها ؛وفي المدنٍ والأقاليم.
ومن المؤكد أنَّ المطر أيَّاً كانتْ درجاته وأوصافه ؛تعشقه جماهير القُرَّاء؛من أقطار الوطن العربي الواسع؛ويبتهجون لمرآه؛فكيف إذا جاء هذا المطر معبراً عن علاقتنا وتصوراتنا لبعض القضايا المحيطة؟!
و باختصار:
هي تُحف فنية غايةٌ في الجمال؛والإمتاع؛ حيث إنَّها مزجتْ فنون الأدب من قصّة ومقالة وخاطرة؛في قالبٍ فني واحد؛ فأسفر هذا التمازج البديع عن غذاء معرفي ثقافي ؛وعن رؤية إنسانية صافية؛تتجسد في تفاصيلها؛وفي الخواتيم الذكيَّة اللمَّاحة.
كما امتازتْ بلغةٍ فنية سلسة؛وتناول أدبي لطيف؛وذهنية فكرية متَّقدة؛فضلاً عن عنصريْ الطرافة والجاذبية؛اللذينَ يشعَّان في ملامحها العامَّة.
ومادام الحديث عن الحمام أقتطف لك من شعر محمود سامي البارودي هذه الأبيات ؛على سبيل التَّهادي بين المحبِّين:
أَلا يَا حَمَامَ الأَيْكِ إِلْفُكَ حَاضِرٌ
وَغُصْنُكَ مَيَّادٌ فَفِيمَ تَنُوحُ؟!
غَدَوْتَ سَلِيماً فِي نَعِيمٍ وَغِبْطَةٍ
وَلكِنَّ قَلْبِي بِالْغَرَامِ جَرِيحُ!
فَإِنْ كُنْتَ لِي عَوْناً عَلَى الشَّوْقِ فَاسْتَعِرْ
لِعَيْنَيْكَ دَمْعاً فَالْبُكَاءُ مُريحُ!
وَإِلَّا فَدَعْنِي مِنْ هَدِيلِكَ وَانْصَرِفْ
فَلَيْسَ سَواءً بَاذِلٌ وشَحِيحُ!
طابتْ أوقاتك ياصاحب القلم الوضَّاء؛والإحساس الجمالي المرهف.
وسرْ قُدُماً في هذا المنبر المكيّ الفريد ؛وزدْنا من جمال روحك؛فأنتَ والأدب والفكر المستنير ؛ثرواتٌ نعتزُّ بها.