للتخصصات الإنسانية قيمة عظيمة لعلاقتها بالإنسان وفكره وثقافته. ولا غرابة أن بداية تأسيس الجامعات كانت لدراسة التخصصات الإنسانية البحتة وهي: الدين والتاريخ والفلسفة. ويشير المؤرخون إلى أن أقدم جامعة في العالم تأسست عام 245 هـ الموافق 859 م هي جامعة القرويين في المغرب، والتي تعمل منذ تأسيسها وحتى اليوم؛ كما أنها أول مؤسسة تعليمية تمنح درجات علمية في العالم. كانت الجامعة في الأصل مسجدًا وأنشأتها العالمة العربية فاطمة الفهري وهي ابنة تاجر ثري اسمه محمد الفهري. ثم تأتي بعد ذلك جامعة الأزهر في مصر، وهي مؤسسة أكاديمية معروفة تأسست في القرن العاشر. بدأت كلتا المؤسستين بتدريس الخطابة والدين.
وتتابع بعد ذلك إنشاء الأكاديميات في إفريقيا، ثم أصبحت جامعة أكسفورد في إنجلترا الأولى في الغرب. وقد ركزت الجامعات في ذلك الوقت على تدريس الدين والشرائع لأنهما كانا أساس الحضارات. ومع أن هذه المؤسسات بدأت منذ ما يقرب من ألف عام، فإنها كانت أقرب إلى القرن العشرين عندما توسعت لتشمل مجالات دراسية أخرى مثل الهندسة والعمارة والطب. وتشير بعض المصادر إلى أن أول أكاديمية موثقة بدأها الفيلسوف اليوناني القديم أفلاطون وهو الفيلسوف الذي قضى الكثير من شبابه يتعلم من الفيلسوف العظيم سقراط. واتجهت البدايات أيضًا لدراسة الفلسفة والتاريخ والدين وكان التعليم في مجمله مشافهة لعدم القدرة على القراءة والكتابة. وهذا يعني أن مؤسسات التعليم والجامعات والأكاديميات بدأت تعلم الشرائع والدين والفلسفة والتاريخ وليس العلوم والطب والهندسة.
ولذا يُعد العمل في مجال الدراسات الإنسانية والتربوية عملًا نوعيًا فريدًا وسابقًا للعلوم التجريبية أو المجالات التطبيقية ومن المعلوم أن هذا النوع الأخير يتعامل مع ظواهر محددة واضحة المتغيرات ويتم قياسها باستخدام أجهزة و أدوات واضحة و معلومة ، في حين أن البحث العلمي في مجال الدراسات الإنسانية والتربوية يتعامل مع متغيرات غير ملموسة مثل: الاتجاهات ، والدوافع والتحصيل، والمعتقدات، وجميعها تحتاج إلى مهارات عالية من الباحث لبناء وتحديد المكونات التي تعكس مضامينه أو أبعاد أو مستويات مثل هذه المتغيرات سالفة الذكر.
وفي ذات السياق، يبذل العاملون في البحث الإنساني والتربوي جهودًا كبيرة في بناء الأدوات ذات السمة العلمية لقياس المتغيرات الإنسانية والتربوية، وهو عمل يحتاج إلى مهارة وخبرة لا تقل أهمية ولا سيما أن تلك المتغيرات تعتمد على مهارات الباحثين في تحديدها، فعلى سبيل المثال من اليسير أن تقيس درجة الحرارة، ولكن من غير اليسير قياس التغير في الذكاء الانفعالي مع ارتفاع درجة الحرارة.
ويظل العمل البحثي في مجال الدراسات التربوية والإنسانية مهمًا لكشف عمق وحقيقة الإنسان سواء في تمكنه المعرفي، أو المهاري، أو الوجداني كمنطلق رئيس في فهم السلوك الإنساني، ومن ثم تعديله وتوجيهه، فلا قيمة لكل ما يكتشفه الإنسان من مخترعات أو ابتكارات علمية أمام اكتشاف الإنسان ذاته بكل مضامينها وهو ما تنهض به الدراسات التربوية والإنسانية.
وأحد أبرز نواحي قيمة تخصص الدراسات الإنسانية التأثير في الرأي والقرار العام فللأبحاث الإنسانية والاجتماعية التي تخص القضايا ذات الصلة بواقع المستفيدين ونشرها عظيم الأثر في توجيه الرأي العام وتثقيف الناس بقضايا اجتماعية وإنسانية وتربوية، كذلك لها مردود هام على صعيد إنشاء العلاقات الحكومية لما للأبحاث الإنسانية والاجتماعية من علاقة وثيقة بالظواهر الاجتماعية ذات الصلة بقرارات حكومية جوهرية فإجراء الأبحاث قد يكون موجهًا للوقوف على ظاهرة معينة أو محاولة فهمها وتفكيكها. إلى ذلك، لنشر هذه الأبحاث الإنسانية والاجتماعية ودعمها أهمية كبيرة من حيث قدرتها على ربط الجهات الاجتماعية المختلفة ببعضها من خلال أبحاث علمية رصينة تهدف إلى الإجابة على أسئلة هامة تهدف إلى الرقي بالمجتمع في كافة النواحي الفكرية وهي المحرك لكل تطور علمي أو تقني.
ولا يغيب عن بالنا أن تأليف ونشر مثل هذه الأبحاث التي تُعنى بالإنسان وحياته الاجتماعية وتعكس واقع الجمهور يعد أمرًا في غاية الأهمية وتكمن هذه الأهمية في التأثير أو في صناعة القرار، بل تنطلق معظم دول العالم من هذه الأبحاث لاتخاذ قرارات مصيرية على المستوى الخاص والعام.
إلى ذلك ومن دونما شك، قد يتطلب بناء أهداف أي منظومة وقياس أداء فعاليتها إجراء أبحاث روتينية دورية للوقوف على الاحتياج وتحقيق المتطلبات المأمولة. وثمة ما يسمى بالإشراف الموجه حيث تقوم المبادرات المجتمعية بتقديم ما يشبه الإشراف الموجه على الاستمارات العلمية التي يتم إعدادها وتوزيعها بمنهجية علمية لتقصي آراء المستفيدين من الخدمات والذي بدوره يعزز من فرص تحقيق أهداف الأبحاث الاجتماعية والإنسانية.
وتقوم الحملات التي تعتمد على إجراء الأبحاث والدراسات المنهجية العلمية بتغذية الجامعات والناشرين والجمعيات الخيرية والجمعيات العلمية بالمعلومات مما يحقق فعالية هذه المنظمات والحملات.
على أن انخفاض الإقبال على الدراسات الإنسانية والاجتماعية أضحت ظاهرة عالمية، وليست محلية أو إقليمية وهو ما دفع إحدى المؤسسات التعليمية البريطانية المعنية بالاهتمام بالبحوث الاجتماعية والإنسانية لتقديم عدد من المبادرات لتعزيز الدراسات الإنسانية والتربوية. وما دفعني لكتابة هذا المقال هو ما ألاحظه في السنوات الأخيرة من تهميش للتخصصات الإنسانية وللمتخصصين بها وما نجم عن ذلك من قرارات وتوجهات لإغلاق برامج أكاديمية في التخصصات الإنسانية والتربوية وإيقاف القبول في تخصصات إنسانية وتربوية، وإيقاف تمديد خدمة العمل للمتخصصين فيها عكس التمديد المتاح حتى سن الـ 65 للتخصصات الطبية والهندسية والعلمية. وذلك كله أثر في التصور المجتمعي لهذه التخصصات، وأصبح الاهتمام ينصب على تعزيز التخصصات الصحية والهندسية والحاسوبية بشكل أكبر مما يمكن استيعابه فتوجه خريجو الثانوية العامة بأعداد ضخمة لهذه التخصصات وهو ما شكل ويشكل ضغطًا أكبر على المجتمع وعلى السوق. وبعبارة موجزة يمكن القول في نهاية هذه المقالة: لا يمكن بحال من الأحوال الاستغناء التام عن التخصصات الإنسانية، بل إنني أرى أهمية التوسع فيها واستحداث برامج في تخصصات إنسانية وبينية تحاكي فيها التوجه العالمي المبني على تداخل التخصصات الإنسانية والاجتماعية، ولا يمكن لأي مجتمع أن ينهض من دون الاهتمام بكل جوانب العلم التطبيقية والنظرية.
أبدعت وأمتعت كعادتك … مقال فاخر 👍🏻