المقالات

“الفيصل” رائد التضامن الإسلامي والمحامي الأكبر في الدفاع عن القضية الفلسطينية

في الذكرى 54 لجريمة إحراق المسجد الأقصى، التي فجرت مشاعر المسلمين من إندونيسيا إلى الرباط بسبب الإساءة البغيضة للعالم الإسلامي، لا بد وأن نستذكر موقف الملك فيصل -يرحمه الله- إزاء تلك الجريمة الشنعاء. فقد كان غضب الملك فيصل -يرحمه الله- عظيمًا لدى سماعه بخبر إحراق المسجد الأقصى المبارك في 21/08/1969م على يد الأسترالي الإرهابي دينيس مايكل روهان، فسارع جلالته بإصدار بيان ناشد فيه زعماء العالم العربي والإسلامي إلى تحرير المقدسات الإسلامية في القدس الحبيبة، كما دعا جلالته إلى إنشاء منظمة المؤتمر الإسلامي خلال عقد أول قمة إسلامية في الرباط كرد فعل على تلك الجريمة النكراء، وكان روهان قد أقدم على إشعال النار في الجامع القبْلي في المسجد الأقصى، والتهم الحريق أجزاءً مهمة منه، كما احترق منبر نور الدين، واستطاع الفلسطينيون بجهد جهيد إنقاذ بقية الجامع من أن تأكله النار، وفي تعليقه على موقف الفيصل الحازم والغاضب حيال جريمة إحراق المسجد الأقصى، قال أ. ج. كريج رئيس البعثة الدبلوماسية البريطانية في جدة في حينه: إن هذا ما كان متوقعًا منه بالضبط، حيث إن “شغفه بالقدس كان جامحًا”. ورأى العديد من المراقبين أن دعوة الفيصل لقمة إسلامية وليس لقمة عربية عقب الجريمة إيمانًا منه بأن القدس قضية كل مسلم وتأكيد على التزام الفيصل بسياسة التضامن الإسلامي الذي أعلن عنه في ذي الحجة 1964م / 1384هـ.
والحقيقة أن موقف الفيصل لم يكن مستغربًا، فقد كانت القضية الفلسطينية هاجسه وهمه الأكبر منذ مطلع حياته المبكرة، سائرًا بذلك على نهج والده الملك عبد العزيز -يرحمهما الله-، حتى إنه يمكن وصفه بأنه المحامي والمدافع الأكبر عن القضية الفلسطينية منذ كان نائبًا للملك حتى استشهاده عام 1975م، وليس أدل على ذلك من خطابه في الأمم المتحدة في سبتمبر 1947م الذي وجه فيه انتقاده لتأييد واشنطن لقرار التقسيم، ومما قاله في ذلك الخطاب التاريخي: “هناك أمر واحد لا سبيل إلى فهمه وتفسيره، ذلك هو تدخل حكومة الولايات المتحدة في مسألة فلسطين وتأييدها للصهيونية، كما أنه لا يمكن فهم الصمت الذي تلوذ به إزاء اعتداء الصهيونيين وأساليبهم الإرهابية”، وقوله: “كنا نرجو أن ترفع الأمم المتحدة موازين القسط بالعدل، وأن تكون سندًا للعدالة، وأن تحافظ على السلم والأمن، نعم كنا نرجو أن توجد قاعدة سليمة لتفاهم متبادل، غير أن القرار (قرار التقسيم) الذي اتخذ اليوم بدد هذه الآمال وقضى على الميثاق، وإننا نعلم أن بعض الدول الكبرى كانت تضغط على مختلف المندوبين”. ويذكر أن جولة جلالته بعد عدوان 1967م على الدول الإفريقية كان لها أثرها في قطع تلك الدول علاقاتها بإسرائيل. كما أن اجتماعه مع الرئيس الفرنسي شارل ديجول عام 67 م كان له كبير الأثر في تحول السياسة الفرنسية إزاء إسرائيل إلى سياسة أكثر حيادًا وتوازنًا. ويمكن الاستنتاج بأن دعوة الفيصل لقمة إسلامية عقب محاولة إحراق المسجد الأقصى كمظهر من مظاهر التضامن الإسلامي لهو خير دليل على أنه – يرحمه الله- كان يربط بين القدس كقضية إسلامية ضميرية وهم إسلامي كبير وبين التضامن الإسلامي بما يوفره ذلك التضامن من آلية عملية وفعالة في المواجهة مع الصهيونية في ممارساتها التعسفية ضد القدس.
وقد خلد التاريخ موقف الفيصل في حرب أكتوبر المجيدة عندما قرر أن يقطع النفط عن الدول الغربية كوسيلة للضغط عليهم لانحيازهم إلى إسرائيل ومن أجل دعم القضية الفلسطينية، وقد اتخذت سائر الدول العربية النفطية نفس الموقف، مما جعل الغرب يتخبط مترنحًا من ذلك القرار الخطير.
وتحدث كيسنجر في مذكراته التي كتبها عن لقائه مع الملك فيصل عام 1973م ، حيث قال: إن الملك استقبله متجهمًا ويبدو على وجهه الغضب وكأنه لا يريد أن يقابله، فحاول كيسنجر أن يقوم باستفتاح حديثه بالمداعبة السياسية التي تخترق تلك القضية التي ذهب من أجلها فقال: “إن طائرتي تقف هامدة في المطار بسبب نفاد الوقود؛ فهل تأمرون جلالتكم بتموينها؛ وأنا مستعد للدفع بالأسعار الحرة؟، حينها لم يبتسم الملك بل رفع رأسه بكل عزة قائلًا: “وأنا رجل طاعن في السن وأمنيتي أن أصلي ركعتين في المسجد الأقصى قبل أن أموت؛ فهل تساعدني على تحقيق هذه الأمنية؟”.
وكانت للفيصل أقوال مأثورة تؤكد على إيمانه بأهمية التضامن الإسلامي في معارك التحدي التي تخوضها الأمة ضد الاستعمار والصهيونية، ومن تلك الأقوال: “إن الدعوة إلى تآخي المسلمين وإلى تقاربهم وإلى تعاونهم ليست ملكي لي وحدي، ولكنها فريضة على كل مسلم ومسلمة. وإنني إذا كنت أتشرف وأعتز بأنني أحد المسلمين الذين يدعون إلى تقارب المسلمين وتحاببهم، فإنني أعتبر ذلك أعظم فخر وشرف لي”.
كان الفيصل – يرحمه الله- صفاته الإيمان والإخلاص، والعفة في اليد واللسان، والجرأة ومتانة الأعصاب، والحكمة والصدق، والنظرة الثاقبة، والتواضع بغير ضعف، وسعة الصبر، ورحابة الأفق، والفكر المستنير، وكان – إلى جانب ما سبق- يتمتع بكاريزما قوية جعلت له هيبة ووقارًا.
وكان لجلالته إنجازاته الداخلية التي لا تعد ولا تحصى مما كان له أثره الكبير في انتشار الأمن وتحقيق العدالة الاجتماعية ونشر العلم ومحو الأمية، وأمور الحج، وتوفير المياه لإحياء الأرض، وفي عهده بدأت أول خطة خمسية في تاريخ البلاد (1970-1975م).
رحم الله جلالة الفيصل وجعله في عليين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى