المقالات

الإنسان محور الحضارة الإسلامية

شهد التاريخ الإنساني حضارات مختلفة تركت شواهد على رقيها العمراني وتقدمها العلمي وقوتها العسكرية. ولازلنا نُشاهد اليوم الآثار التي خلفتها تلك الحضارات، والتي تقف شاهدة على تلك المحطات التاريخية والمنجزات البشرية وأصبحت محل اهتمام الدارسين ومحط أنظار المفكرين ومبعث فخر المنتمين لها على مر الدهور، ولقد حث الدين الإسلامي على البحث والتأمل في التاريخ الإنساني للاعتبار والاستفادة وفي القرآن الكريم شواهد كثيرة للمتأمل فقد ورد ذكر أبناء آدم وقصة قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم كثير بل إن علماء أصول التفسير قالوا إن القرآن الكريم ينقسم إجمالًا إلى ثلاثة أقسام:
1. التوحيد (الذي هو لب الأمر الذي لا يقبل الله عمل أحد إلا بتحقيقه).
2. الشريعة (التي هي أساس السعادة للبشر لأنها من عند العليم الحكيم: (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) 1)
3. القصص والتاريخ (للتعلم والتأمل والاعتبار) قال تعالى: (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)2.
ولا شك أن كل حضارة من الحضارات الإنسانية عرفت باهتمامها بجانب من الجوانب التي رأت أهميتها فمنها من اهتم بالفنون، ومنها من اهتم بالعلوم ومنها من اهتم بالعمارة، ولكن ما يميز الحضارة الإسلامية هو جعلها الإنسان محور حضارتها تعليمًا وسموًا في التفكير وارتقاء بالأخلاق ورفعًا للهمم حتى لا يطمح إلى شيء دون مرضات الحق سبحانه: (وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ) 3.
فأول آية أنزلت على النبي -صلى الله عليه وسلم- كانت (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ 1 خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ 2 اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ 3 الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ 4 عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ)4 ولئن كان أول عمل قام به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عندما قدم المدينة هو بناء المسجد إلا أنه علم أصحابه أن بناء الإنسان هو المهمة الكبرى لهذا الدين عندما أشار لأصحابه -رضوان الله عليهم- أجمعين بعدم صرف اهتمامهم ببناء المسجد فحسب بقوله -عليه السلام-: «بل عريش كعريش موسى»5 ذلك أن الساجد قبل المسجد ومن أجل ذلك أكرمه ربه قال -عليه السلام-: «وجُعِلَتْ لي الأرْضُ مَسْجِدًا وطَهُورًا»6 فليست القضية أين يصلي الناس بل لمن وكيف يصلون، وليست القضية أين يجتمع الناس بل لماذا وعلى ما يجتمعون.
ولقد أكرمت هذه الحضارة الإنسان بأن جعلته أكرم مخلوقات الله تعالى كما قال سبحانه: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا )7 ومن هذا الإكرام ذلل الأرض وخيراتها لبني آدم (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ ۖ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) 8، وجعل من جنس الإنسان الأنبياء والرسل واسجد لأبي البشر آدم -عليه السلام- ملائكته المقربين فقال تعالى: )وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ( 9.
هذا الشرف العظيم لبني آدم وهذا الإكرام يصحبه مسؤولية عظيمة من أدب التعامل مع الخالق العظيم وإعمار الأرض والتعامل مع بني جنسه بل التعامل مع الكون بأسره، وحتى يكون أهلًا لتحمل هذه المسؤولية العظيمة حثه الإسلام على التعلم، فجعل العلم مقدمًا على الإيمان (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ)10 وجعل العلم مقياس التفاضل، فرفع درجة العلماء: (‏‏يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ)11. وإذا ما نظرنا إلى سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- نجد أنه -عليه السلام- جعل من قضية التعليم قضيته الأولى حتى عندما أسر المسلمون مقاتلي قريش في غزوة بدر جعل من الفدية تعليم عشرة من الصحابة القراءة والكتابة، وكانت هي الخطوات الأولى نحو محو الأمية عن الإنسان المسلم، وقال -صلى الله عليه وسلم-: «طلب العلم فرض على كل مسلم»12، ليس هذا فحسب بل توعد من آتاه الله العلم ولم يعلم الآخرين بالعقوبة في الدنيا قبل الآخرة ففي الحديث «ما بال أقوام لا يفقهون جيرانهم ولا يعلمونهم, ولا يفطنوهم, ولا يأمرونهم ولا ينهونهم وما بال أقوام لا يتعلمون من جيرانهم ولا يتفقهون ولا يتفطنون؟ والله ليعلمن قوم جيرانهم ويفقهونهم ويفطنونهم ويأمرونهم وينهونهم, وليتعلمن قوم من جيرانهم ويتفقهون ويتفطنون, أو عاجلنهم العقوبة في الدنيا»13.
فالإنسان في هذه الحضارة الإسلامية هو مؤتمن على كل ما حوله يتعامل معه من واقع المسؤولية التي كلفه الله بها، وأن كل ما في الكون مخلوق لله يسبح ربه ويقدسه قال تعالى: (تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ ۚ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ۗ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا)14 فيتعامل مع الجنس البشري من مبدأ الأخوة الإنسانية بالإحسان إليهم والنصح لهم والسعي في خدمتهم وبذل المعروف ما استطاع في ذلك. ومأمور هذا الإنسان أن يتعامل بدرجة عالية من الرحمة والرأفة للحيوانات فهو مأمور بالإحسان إليها وإطعامها وحملها على ما تستطيع من الأعمال بل جاء عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن امرأة دخلت النار في هرة حبستها وحرمتها من الطعام15 وأن رجلًا دخل الجنة في كلب سقاه16. والأرض أمر بزراعتها وسقايتها حتى ورد عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قوله: «من أحيا أرضا ميتة فهي له»17. وحري على من آمن بدين قام على هذه المبادئ السامية والأهداف النبيلة والغايات العظيمة أن يكون نموذجًا فريدًا في تعامله مع الناس بل مع الكون كله. ولئن كانت الحضارات الأخرى حرصت كل الحرص على الفن والعمران والقوة العسكرية والبطش؛ فأنفقت في سبيلها الغالي والنفيس وجدت واجتهدت وبذلت فإن الإسلام حرص على أهم مكونات الكون الذي نعيش فيه. لأن الإنسان هو المخلوق المؤتمن على غيره لأنه مكلف يؤمن بالآخرة يراعي الأكوان التي يؤمن بأن كل جزء منها يسبح الله، فهو لا يبيد ولا يدمر بل يرعى ويعمر، والحضارة الإسلامية عندما اهتمت بالإنسان وجعلته محور اهتمامها، خرج المسلمون من الجزيرة العربية التي هي محبط الوحي إلى مشارق الأرض ومغاربها ليدعوا إلى الله على بينة وبالحكمة والموعظة الحسنة ولتخليص الناس من الظلم والاستعباد والاستبداد. فلم يخرج المسلمون ليحتلوا البلدان وليستأثروا بالسلطان، فلم يُعرف في التاريخ أن المسلمين حملوا خيرات البلدان التي فتحوها إلى الجزيرة العربية ولم يكرهوا أهلها على اعتناق دينهم فانظر إلى الهند التي بقيت تحت سلطان المسلمين لمدة قرون ولا يزال كثير من أهلها على دينهم ولازال غير المسلمين يعيشون وسط المسلمين لم يتعرض لهم أحد بالإكراه في كثير من دول العالم الإسلامي. بل المسلمون نقلوا إلى البلدان التي فتحوها علومًا وثقافةً، وأكرموا أهلها حتى شهدت الحضارة الإنسانية أن من حفظ الدين ونقل العلم وربى الأجيال على مر العصور كان من أهل البلدان التي فتحها المسلمون. فأصح كتابًا في الحديث للبخاري من بخارى وسيبويه فارسي وغيرهم كثير بل أكثر طلاب ابن عباس -رضي الله عنه- كانوا من الموالي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

1.سورة الملك:14
2.سورة الروم:9
3.سورة التوبة:72
4.سورة العلق:1-3
5. مجمع الزوائد للهيثمي 2/19 البداية والنهاية لابن كثير 3/214
6. صحيح البخاري: 1/168
7. سورة الإسراء:70
8.سورة الملك:16
9.سورة البقرة:33
10.سورة محمد:19
11.سورة المجادلة:11
12.أخرجه ابن ماجة 1/81
13.أخرجه الطبراني
14.الإسراء:44
15.صحيح البخاري3/ 1205
16.صحيح البخاري2/833
17.الترمذي: 1378 أبو داوود: 3083

د. فايد محمد سعيد

عضو المجلس الأوروبي للقيادات المسلمة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى