الثقافية

قراءة في قصيدة الشاعر عبد العزيز أبو لسه “أول القمح آخر العنب”

تظل قصيدة الشاعر عبد العزيز أبو لسه موصولة بذاكرة عميقة ممتدة عبر التاريخ، ويظل بوعيه المختزل يتوقف عند عناصر الأثر بما يتوافق مع عالمه الواقعي في كل مراحله التاريخية، فقد عبّر من خلال قصيدته عن فضاء الكلمة بالمعنى الواسع والمتعدد، الأمر الذي تكتشف معه البنية العميقة لخياله المبدع في استدعاء المراحل البعيدة من التاريخ، القصيدة التي أسماها (أول القمح آخر العنب) كان اسم القصيدة بما تضمنته من بُعد فلسفي عميق اقترب فيها حد الملامسة وابتعد حد مسافة فجر التاريخ، وهي تحمل اسم ديوانه الذي طبعه وأشرف عليه نادي الباحة الأدبي بواسطة مؤسسة الانتشار العربي في بيروت، من خلال هذه القصيدة سافر الشاعر أبو لسه عبر الزمن البعيد، وتنكب مشقة الدهر والحياة وهو يردد:
(على هوى حنطتي تمتدّ أغنيتي)
كان الشاعر باحثًا عن رحلة الإنسان في هذا الوجود وعن معناها ومآلاتها، ومن عنوان القصيدة يتضح عطاء الإنسان في إعمال العقل وغيابه، وكيف يكون الإنسان مع حضور العقل وكيف هو حال غيابه، فالشاعر أبو لسه في هذه القصيدة لا يعتمد على الموضوعات المباشرة التي تقدمها الحواس بل جعل من الصورة الشعرية أن تجمع عناصر متباعدة في الزمان والمكان؛ لتتوحد في إطار شعوري واحد ليجمع ما لم يجمعه بقية الشعراء كما يقول في مطلع القصيدة:
(جمعتُ ظلّ عيوني غير ما جمعوا)
كان يغني ويتغني على وقع إيقاع متغيرات الحياة في سفرها الطويل مستندًا ضمنًا على صوت السماء (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ)، وها هو يُكابد عناء هذا الوجود كما كابد غيره من بني الإنسان من فجر يومه البعيد، كان ينتابه نوع من القلق، ويعتريه حالة من الخوف، وهو يتجاوز بسفره إلى المجهول ليعيش بين مستويين (أول القمح) في اعتبار رحلة الحياة بكل عطاءاتها و(آخر العنب) بما يؤول إليه وبتبعاته في إشارة إلى حالات الغي والتيه والظلال، وبعد أن استحضر شدة البلاء لفتيا السجن مع النبي يوسف ـ عليه السلام ـ وكان إحداهما ساقي الملك والآخر خبازه؛ فطال بهما الحزن وانقطع الرجاء كانا يبحثان عن مخارج في الرؤيا، ومن منطلق (نبئنا) استبشارًا الفتيان بإشراقه وجه يوسف ـ عليه السلام ـ بمتكأ خير وإحسان على مبدأ
(إِنَّا نَرَاكَ مِنَ ٱلْمُحْسِنِينَ)
كان الشاعر أبو لسه يبحث في رحلة سفره في الحياة عن إنسان في طهر يوسف، وهو لا يزال يعيش رحلة الألم والعناء ليستدعي صواع الملك وحوت فتى النبي موسى ـ عليه السلام ـ وفي رحلة السفر الشاق قال:
نسيتُ “صاعي” نسيتُ “الحوت” أين أنا
أين أنا؟ هذا التساؤل محفوف بالألم والمعاناة كان يستدعي فيه كل مراحل العناء والدرب الشاق للسفر البعيد في رحلة الحياة، ففي رحلة عنائه في الكشف عن المكبوت كان الشاعر أبو لسه يبحث في كل مراحل العمر في الحياة عن طمأنينة وعن حالة تعايش صادقة وعن صدق للمعشر، وعن حسن في العلاقة التي كانت تتأرجح بين بعدي غلام النبي موسى وإخوة يوسف وهنا يبرز عنصر المفارقة بين واقعين مختلفين، باعتبار أن الروح السامية والإنسان النبيل هو من يتعامل مع واقع الحياة اليومية ومع كل الناس بخُلق عظيم، كما حظي خادم النبي موسى بحسن المعشر والعلاقة الطيبة رغم البعد الاجتماعي، على عكس أخوة يوسف رغم القرابة وبيئة أحضان النبوة، إلا أن غي الشيطان كان سببًا في الفرقة والانقسام حد التناحر والاقتتال، ينتقل الشاعر أبو لسه إلى طور آخر من معاناته في الحياة؛ ليخلق حالة من الإثارة حينما خاطب هذه الحياة بالماء لتعم حالة من الصخب، ويكثف ضجره بقلق مستمر في نداء جديد للحياة التي رمز لها بالماء
(يا ماء مر على ملحي، على قلقي)
نادى الحياة وهذا الوجود ليقف على سياق العتاب ليحرك مجريات الأحداث تبعًا لانزعاجه وقلقه من خلال مفردة (ملحي) كثقافة عربية متعارف عليها لمن لم يحفظ الملح، لنكنه بطبعه الأليف واستجابته لنموذجي الطهر والنقاء والتسامح والمحبة المتمثلة في موسى ويوسف ـ عليهما السلام ـ سرعان ما تراجع وتوافق مع أمزجة الناس ليصانعهم في كل أمورهم كطريق للتعايش وفق مذاهبهم وأهوائهم بلطف الإنسان وإشفاق الأم ورحمة العاطف وبتسامي الإنسان النبيل، ثم يؤكد هذا الشعور في آخر القصيدة بصوت قوي نحو حب الحياة، وضرورة التعايش مع بني الإنسان رغم كل حالات الزلل والتعدي والخطيئة كانت خاتمة القصيدة لا تخفي شعورًا متقدًا ومتوهجًا نحو هذا الوجود بكل ما يحتويه بثنائيات متضادة وصراع لا ينتهي، حتمًا لا بد أن نتفاعل مع هذا الوجود جبرًا لا خيارًا، وأن نتفاعل مع كل أحوال الحياة، وأن نتأقلم معها في كل مظاهرها وتغيراتها، وأن نتعايش لنعيش بحب وسلام
لي فيك يافتنتي قلبٌ ومنقلب
لي فيك دارٌ وأوتار ومجتمعُ
هكذا ركض أبو لسه في مضمار الحياة بين بعدي أول القمح وأخر العنب؛ لتبدو القصيدة مزيجًا من التجربة الإنسانية وعطاءات الخير بعد أن ضمن كل مفرداته بشحنة إيحائية واسعة تتجاوز دلالاتها المعجمية إلى عمق فلسفي واسع وعميق يستحق أن نقف عليه، وأن نتجاوب معه لنمضي سويًا في مضمار الحياة نحو كل الأبعاد الإنسانية النبيلة والخلق السامي العظيم .. وإلى لقاء..

– ماجستير في الأدب والنقد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى