المقالات

محمد الطيب التونسي وذكريات إنسان “2”

مضت الأيام، وانتقلت إلى مرور جدة، وعملت في عدة أعمال معظمها في قيادة السير، ووقت قصير في قيادة القوة بما هو مفهوم الآن الموارد البشرية (إلى حد ما). وتناهت السمعة الطيبة عن مرور جدة بفضل الله ثم قيادته ومجهود الزملاء. فقام الفريق الطيب -رحمه الله- بزيارة تفقدية للمرور، وكنت حينها قائدًا للسير، وكان يوجد مكتبان أنيقان إلى حد ما. مكتب المدير ومكتبي والذي أثثته بنفسي وأذكر إلى الآن ذلك الكتاب الذي يميل إلى اللون السماوي، وقد شتريته بمبلغ 300 ريال من جيبي الخاص. طبعًا الله يعلم كيف كان ذلك الجيب. إنما كنت أحب الترتيب والأناقة وجمال المكان، وكنت أضع لوحات من رسمي المتواضع بعضها عن تشكيلات العمل وبعضها الآخر جماليات على قد الحال. وعندما زار مكتبي كان المكتب الوحيد بعد مكتب المدير الذي توقف عنده مليًا، وجعل يسألني عن معاني اللوحات سواء فنية أو تنظيمية. ويبدو أني قد لفت انتباهه قليلًا. أُقيمت في اليوم الثاني مأدبة عشاء على شرفه من قبل رجال الأمن في منطقة مكة المكرمة في مدينة جدة. وبعد العشاء والرسميات والتي كانت تفيض بالانضباط الشديد، يبدو معاليه أراد أن يظهر الوجه الآخر للقائد فقال: أحضروا ورقة اللعب ونريد أُناسًا حريفة. وحضرت مجموعة من كبار الرتب للعب البلوت وأما صغار الرتب، وهم قلة وكنت أنا منهم؛ فكنا نكتفي بالفرجة ونراها شيئًا جميلًا مميزًا. المهم يلعب فريق ويمضي فريق، وفجأة وقد كان معاليه خارج اللعبة في ذلك الوقت فبادرني لماذا لا تلعب؟ فأجبته بملامح وجهي وكأني أقول حكمًا “وليس صن” القوي على الضعيف. فقال: أنا برافق النقيب أسعد. طبعًا كنت أسعد سعيدًا بهذه اللفتة. بعد اللعب توقفنا لنستمع من معاليه بعض الإفاضات الثقافية. ومن ثم بعد تبسيط الجو ألقى بعض النكات الجميلة التي جعلتنا، ونحن “خائف أخاك لا بطل” نضحك ملء أشداقنا مع سرقة النظر إلى وجه معاليه حتى نضبط إيقاع ضحكاتنا على ملامح وجهه. قلت في نفسي حينذاك …وكل امرئ من الزملاء في داخله… وأنا أناظر بإعجاب إلى كاريزما هذا الإنسان الراقية سواء في الجد أو أثناء ومضات من المرح الذي مهما اتسع سقفه تشعر أنه تحت الكنترول. ما هذا القائد وحتى وهو يمازح وينكت يزداد احترامًا. بعض القادة في ذلك الزمان لا يحب أن ينكّت قدر ما يحب أن ينكّد. يظنون العبوس وتقطيب الحواجب برستيج القائد ولزومه. استدعاني مدير المرور، وكنت حينئذٍ قائداً للقوة. وقال لي: نريد إعادة تنظيم وسائل النقل (وكانت باصات ملكية خاصة تعطي تصريحًا للسير وحمل الركاب من منطقة إلى أُخرى) وأردف، ولثقتي فيك أود أن تشرف على إعادة صياغة هذا الترتيب وتوزيع المسارات. فقلت له معتذرًا اعفني من هذا الأمر. فرد إذا أردت فاعتبره أمرًا. فقلت له: أقبل لكن على شرط. رد ما هو؟ قلت: لا واسطة ولا أوامر. دعوني أتصرف بالعدل وما يُمليه ضميري فقط. فقال لك ذلك. وحتى أضمن عدم تذمر المالكين، جعلت ذلك بالقرعة بحضور الجميع من مالكي الباصات. وكلُ وحظه مع مراعاة قدر الإمكان تقارب الفرص. ولكن تظل مسارات أفضل من أخرى، وخرج الجميع وهم راضون. وبعد أيام جاءني رجل محسوب على ذي جاه ومقام كبيرين جدًا، وقال لقد كنت في الرياض ولم أحضر الاجتماع. والآن أريد أن تعطني مسارات للباصات التي لدي وكانت تفوق العشرة. فقلت له: أبشر وبدأت في كتابة المسارات على عدة أوراق. وقلت له اسحب. فنظر إليَّ باستغراب، وقال لو أردت هذا ما قابلتك مخصوص. رديت قلت: هذا الذي عندي وذهب مغضبًا. في اليوم الثاني طلبني المدير لمكتبه وعندما دخلت وجدت هذا الشخص موجودًا في مكتبه. فقلت في نفسي لقد جاء ليشكوني إلى المدير. المهم طلبني المدير لكي يخافتني بأمر وأراني مذكرة من معالي الفريق الطيب فيها فلان أتانا في أمر فأنجزوه. قال المدير: “أنا في حرج”. رديت بيننا شرط. فرد الشرط في محله. قلت اترك الحرج لي أنا بجلس وأنت بلغني. جلست وقال المدير: أخونا فلان لديه توجيه من معاليه بإنجاز أمره، وكنت في تلك اللحظة أناظر إلى وجه المراجع وألاحظ عليه علامات التيه و الانتصار . رديت: أمر معالي الفريق على الرأس، ولكن أعتذر ليس عندي إلا القرعة. فرد المراجع بحنق وصوت عالٍ. إذا أنت لا تسمع كلام مدير الأمن العام ستسمع كلام من؟ قلت له: أسمع كلام العدل والنظام. مضى غاضبًا ويدمدم بكلام لم أفهمه لكنه أكيد فين يوجعك. وثاني يوم وأنا في مكتبي وإذا عامل التلفون يقول يا نقيب معالي الفريق الطيب سيتكلم معك. قلت متأكد أنه الفريق بنفسه قال: نعم حسب إفادة سنترال الأمن العام. المهم مهما كان فلا مناص. وتكلم الله يرحمه بصوته الجهوري الأنيق وقال: أنت جاءك فلان وقلت له كذا وكذا. قلت: نعم طال عمرك حصل. قال: “أحسنت لقد ارتقيت في نظري ولو قلت أو فعلت غير ذلك لما حظيت مني بهذا التقدير. سر علي ما أنت عليه وسيكون التوفيق حليفك”. العظماء يزيدهم التواضع ارتقاءً وشموخًا. كم هو رائع وقيادي محنك وودود ذلك الطيب.
موعدنا مع المقال رقم 3، والأخير عن ذكريات مع الطيب. بعد أيام -إن  شاء الله-.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى