رحم الله الأستاذ عبد المقصود خوجة الذي فقد المشهد الثقافي السعودي والعربي برحيله شخصية ساهمت بكل محبة وإخلاص في إثراء الساحة الثقافية من خلال قيامه بتكريم روّاد الأدب السعودي، وغيرهم من المبدعين والمفكرين والأدباء والمثقفين في العالم العربي والإسلامي عبر ندوات أثرت المشهد الثقافي، وأغنته بطروحات إبداعية وتجارب حياتية، كان لها الأثر العميق في ربط الثقافة.. لقد سنحت لي الفرصة أن أحضر العديد من ندوات الإثنينية يوم كنت أعمل.. محررًا بجريدة البلاد الحبيبة لأنقل للقراء فعاليات هذه الأمسيات الثقافية التي يحرص على حضورها كوكبة من الأدباء والمثقفين ومحبي الأدب، يجتمعون في منزل الأستاذ عبد المقصود خوجة العامر يتحلقون حول شاعر أو كاتب يشنفون آذانهم بروائع شعره، وينصتون في اهتمام إلى حديثه عن تجربته الأدبية ومشوار حياته العامرة بالعمل القيَّم والإنتاج الأدبي الزاخر…وتنداح صور من الذكريات التي تجمع روّاد الأدب في بوتقة الإخاء والصداقة، وترتعش القلوب بخفقات البوح لملاعب الصبا والدراسة، وتبرق العيون؛ وكأنها تحكي بعض الذكريات التي لا تُنسي..يحاورون ويسألون ويناقشون من خلال ما يقول بعض قضايا الفكر والثقافة..وتمضي الساعات مسرعة، وأنت تعيش في جو حميم كله ألفة ومحبة ورغبة عظيمة في التلاقي والتصافي..
وفي مقدمته للجزء الأول من كتاب الأثنينية الصادر في عام 1991م الذي ضم أربع عشرة شخصية تم تكريمهم على مدار العام الأول من بدايتها..يشرح -رحمه الله- كيف نبعت عنده فكرة إقامة لقاء (الإثنين) فيقول..وفي البدء كانت الكلمة نورًا يتدفق رواء وخضرة وحياة..بحرًا يفيض ثراءً وأحلامًا لا نهائية وشمسًا تدفئ العقول بالمعرفة والقلوب بالذكرى والوعي بالحقيقة..ومع البداية الأولى كان العشق لها والحب لأصحابها يختلط بأيامي وسنوات طفولتي الباكرة؛ فمن جلسات الصباح التي كان يلتقي فيها نخبة من كتاب وشعراء وأدباء الوطن في مكتب والدي محمد سعيد عبد المقصود خوجة -رحمه الله-..رئيس تحرير أول صحيفة صدرت في عهد مؤسس المملكة وموحدها الملك عبد العزيز -رحمه الله- ..إلى تلك الأمسيات الباذخة الزاخرة التي كان يعقدها والدي -يرحمه الله- على ضفاف مواسم الحج من كل عام في الليلة الثانية من ليالي عيد الأضحى المبارك على شرف أدباء وكتّاب وشعراء ومفكرين من العالمين العربي والإسلامي..ثم انطوت تلك الصباحات المشرقة والأمسيات الوضيئة ..على قصرها بعد أن عاجلت والدي أقداره؛ ليلحق بربه وهو في ريعان شبابه ورجولته..فانطفأت بانطفائه تلك الصباحات والأمسيات ولكن صورة والدي وتلك الصباحات والأمسيات الوضاءة ما كانت تغيب عن قلبي وعقلي إلا لتشرق من جديد وتذكرني وتناديني بحنين العودة إليها….ويضيف..وعندما دار الزمان دورته، واستقرت بي أيامي في (جدة) مدينة الوسط الثقافي على حد وصف أحد المثقفين لها احتواني الماضي مجددًا، وتدفق الحب الذي لم يمت والعشق الذي لم ينطوِ..فكان لقاء الإثنين الذي سرعان ماسمته الصحافة (الإثنينية)، وأخذت في تداوله منذ أول لقاءاته في الثاني والعشرين من شهر محرم لعام 1403 هجرية الموافق للثاني من نوفمبر 1982م ..فلم تكن الفكرة إذن شخصية بقدر ما كانت استلهامًا لتلك الصباحات والأمسيات وتجاوبًا مع ذلك الحب وتلاقيًا مع ذلك العشق، ومحاولة لاسترجاع مشاعر البهحة التي تغمرني صغيرًا ولا أدري أسبابها ثم احتفاء واحتفالًا بأولئك الذين أصبحوا عبر دورة الزمان رموزًا ومشاعل على دروب الأدب والفكر وأشجارًا باسقة ظليلة في حياتنا الثقافية جديرة بالالتفات والالتفاف حولها.. ويضيف ومع توالي الأيام والأسابيع والشهور والأعوام، كانت الأثنينية تدخل من حيث أريد أو لا أريد دائرة الصالونات الأدبية..إلا أنها كانت صالونًا مختلفًا في مبناه ومعناه عن بقية الصوالين الأدبية المعروفة… فلم يكن مبناها على المناقشات المفتوحة بحضوره من الأدباء والمفكرين والشعراء والكتّاب والصحفيين أو سياحتهم حول العديد من الموضوعات الأدبية المتفرقة، ولكنه قام على إطار الاحتفاء والاحتفال بواحد من طلائع تلك الشخصيات الأدبية المعاصرة التي أسهمت بجهد بارز في الحياة الأدبية ..وكان لها عطاؤها الباقي، وكان لها رصيدها من التجارب الجديرة بالاسترجاع والتأمل..بل وتناقلها من جيل لجيل..ثم خرجت الإثنينية من دائرتها الإقليمية إلى محيطها العربي والإسلامي عندما قدر لها أن تستضيف عددًا من المفكرين والأدباء والشعراء والكتّاب العالمين العربي والإسلامي؛ فكان خروجها إلى هذا المحيط الكبير إضافة لها وإثراء لطبيعتها وحلقة جديدة في عقد تميزها وترجيعًا للصدى الباقي في قلبي وعقلي لصباحات مكة المكرمة وأمسيات (منى) التي كان يعقدها والدي يرحمه الله ..
وحين نلقي نظرة سريعة على بعض أسماء من تم تكريمهم في صالون (الإثنينية الثقافي الأدبي)، منذ تأسيسه في العام 1982، وحتى قبل وفاة صاحبه بأعوام قليلة نجد أنه تم تكريم نحو 530 عالمًا ومفكرًا وأديبًا من الأدباء والمفكرين السعوديين وغيرهم من الدول العربية والأجنبية في شتى المجالات والتخصصات،.. منهم على سبيل المثال لا الحصر.. مع حفظ الألقاب عبد العزيز المسند، إبراهيم العواجي، عبد القدوس الأنصاري، سليمان الذييب، عبدالله الفيفي، طاهر زمخشري، عبدالمجيد شبكشي، عبدالله بلخير، محمد حسين زيدان، حسين عرب، حسين سرحان، أحمد الغزاوي، حمزة شحاتة، عزيز ضياء، حسين باشا سراج، السيد أحمد عبيد، محمود عارف، أحمد العربي، عبد العزيز الرفاعي، عثمان الصالح، حسن عبدالله قرشي، عدنان العوامي، حسن الصفار، أحمد أبودهمان، طارق عبد الحكيم، عبد الكريم الجهيمان، فهد العريفي، عبدالرحمن الشبيلي، محمد القشعمي، راشد المبارك، حمد القاضي، عبدالله الجفري، أبوتراب الظاهري، صفية بن زقر، حياة سندي، خولة الكريع، ثريا العريض، وغيرهم من المفكرين والأدباء السعوديين الرواد… أيضًا من الدول العربية والإسلامية المختلفة، فقد تم تكريم : أبو الحسن الندوي من الهند، زكي قنصل من الأرجنتين، أحمد ديدات من جنوب أفريقيا، ألكسي فاسيليف وبنيامين بوبوف وأوليق بريسيلين من روسيا، محمد مهدي الجواهري من العراق، عمر أبو ريشة من سوريا، محمود السعدني وفاروق جويدة من مصر، محمد صالح الشنطي من الأردن، محمد جابر الأنصاري وعلي الشرقاوي من البحرين، ومحمد الحبيب بن الخوجة من تونس.
وفي إطار جهوده الكبيرة الموفقة، قام -رحمه الله- بإعادة إصدار العديد من مؤلفات الأدباء والشعراء والكتاب السعوديين الرواد .. وتقديرًا لجهوده المشهودة في إثراء الحركة الثقافية والفكرية ..توج -رحمه الله- من قبل سمو أمير منطقة مكة المكرمة بجائزة مكة للتميز في المجال الثقافي عام 2009م .. ومنح وسام الثقافة من قبل وزير الثقافة والإعلام د. عبد العزيز خوجة سنة 2010، ضمن فعاليات معرض الرياض الدولي للكتاب..وحصل على الزمالة الفخرية من رابطة الأدب الحديث بالقاهرة.
رحم الله الأستاذ عبد المقصود محمد سعيد خوجة الذي سيظل اسمه حاضرًا في الأذهان..باعتباره أحد الذين ساهموا بسخاء في إثراء الساحة الثقافية من خلال قيامه بتكريم رواد الأدب السعودي وغيرهم المبدعين والمفكرين والأدباء والمثقفين..والنابغين في أي حقل من حقول الحياة..
– جدة
0