رغم أن النظام في المملكة العربية السعودية قد اعتبر تزوير الإجازات المرضية جريمة يُعاقب عليها النظام الجزائي للعقوبات حيث قد تصل عقوبتها إلى السجن مع دفع غرامة مالية؛ ولكن مع كل ذلك ما زلنا نسمع ونقرأ بين فترة وأخرى عن أخبار تُفيد بوجود تحقيقات تجريها الجهات المختصة في المؤسسات الصحية أو الإدارات المعنية داخل المؤسسات الحكومية حول إصدار تقارير طبية غير صحيحة ليتغيب أصحابها عن العمل ويتمتعوا بإجازات مرضية، وهم في كامل عافيتهم، وبالتالي فهم من جهة يعطلون مصالح الناس بعدم تواجدهم في أماكن عملهم من غير عُذر حقيقي، ومن جهة أخرى فهم يأخذون مقابلًا ماديًا بغير وجه حق؛ لأنهم لا يحضرون للدوام بحكم تلك الإجازة. والحقيقة أنني عند سماعي لمثل هذه الأخبار أتذكر موقفين حول هذا الموضوع حدثًا منذ زمن بعيد، ولكنهما يمثلان رسالة صادقة ومثالًا يجب أي يحتذي به كافة العاملين في المؤسسات الصحية، وكذلك مؤسسات القطاعين الحكومي والخاص.
الموقف الأول حدث عندما مرض حفص بن غياث خمسة عشر يومًا لم يتولى فيها أمر القضاء بين الناس في الكوفة في عهد الخليفة هارون الرشيد، فدفع إلى قريب له مائة درهم وقال له: اذهب بها إلى عامل أمير المؤمنين فادفعها إليه وقل له: هذه رزق خمسة عشر يومًا لم أحكم فيها بين الناس فلا حظ لي فيها. وهنا نلاحظ أنه على الرغم من صحة عُذر غيابه وفي نفس الوقت عدم معرفة المسؤول بغيابه إلا أن الرقابة الذاتية كانت هي المحرك لسلوكه، وهي المبدأ الذي كان يسير عليه السلف الصالح.
أما الموقف الثاني فيروى أن الحجاج بن يوسف الثقفي سجن رجلًا، فحضر أقارب ذلك الرجل وزعموا أنه مجنون وطلبوا من الحجاج أن يخلي سبيله، فقال لهم الحجاج: إن أقر بالجنون خليته. قال الرجل: معاذ الله لا أزعم أن الله ابتلاني وقد عافاني. وهكذا فضل ذلك الرجل البقاء في السجن على أن يكذب على الله ويدعي أنه مريض وقد عافاه الله. أليست هذه رسالة أخرى لكل من يفتري الكذب ويدعي المرض لينام في بيته أو يقضي مصالحه الخاصة على حساب المصلحة العامة؟!
لا شك أن مثل هذه المواقف تؤكد لنا حقيقة ما كان عليه الناس في العصور السابقة من التحلي بالأمانة والإخلاص والمصداقية في القول والعمل، وما كان يطبقه المسؤولون من مبدأ الرقابة الذاتية، بينما نجد وبكل أسف الكثير من العاملين في عصرنا الحاضر قد ضيعوا الأمانة، بل ولم تعد أخلاقيات العمل تُعار ذلك الاهتمام إلا من رحم الله. لكننا من ناحية أخرى يجب ألا نغفل دور الإدارة في استمرار هذه المشكلة؛ حيث يقع على عاتقها وبكل تأكيد جزء كبير من المسؤولية في تفشي ظاهرة الإجازات المرضية المزورة إذا جاز التعبير أن نسميها ظاهرة، كونها قد تفشت في عدد من المؤسسات الحكومية بل وامتدت حتى شملت عددًا كبيرًا من مؤسسات القطاع الخاص، ويمكن أن تبرز مسؤولية الإدارة في جانبين: الأول هو تساهل إدارة المؤسسة في قبول مثل تلك التقارير الطبية وعدم التحقق من صحتها وبصورة خاصة عندما تتكرر من قبل شخص معين وخلال فترة وجيزة. أما الجانب الآخر فهو الشدة غير المبررة التي تمارسها بعض الإدارات وعدم تفهمها ظروف الموظفين وعدم السماح لهم بتحديد إجازاتهم الاعتيادية وفق رغباتهم واحتياجاتهم وبخاصة عندما لا يتعارض ذلك الأمر مع احتياج العمل، بالإضافة إلى عدم قبول الإجازات الاضطرارية في الحالات التي تُحتم على الشخص الغياب، الأمر الذي يضطر معه الموظف للبحث عن وسيلة أخرى للغياب عن طريق الإجازة المرضية.
ومن هذا المنطلق يجب على الإدارة أن تمسك العصا من المنتصف، فلا ضرر ولا ضرار، فلا تساهل بحيث يصبح الباب مفتوحًا على مصراعيه لكل من أراد التسيب والعبث بمصالح الناس والتحايل على النظام دون رقيب أو حسيب، وفي الوقت نفسه ألا تتعنت الإدارة في تفهم ظروف الأخرين وقبول أعذارهم عندما تحوجهم الظروف للغياب وحتى لا يضطروا للبحث عن بدائل أخرى حتى وإن كانت بطرق غير مشروعة.
وفي الختام لابد أن نشير إلى صنف آخر من الإدارات وهي التي لا يحتاج معها الموظف للإجازات المرضية ولا حتى الاضطرارية حيث إن الطاسة ضايعة داخل هذه المؤسسة، إما لضعف إدارة المؤسسة، وإما أن الإدارة لم تعد تهتم بمن يحضر ومن يتغيب عن العمل لأن المهام الرئيسة موكلة إلى شلة معينة، وبكل تأكيد أن تلك الشلة تحرص على الانضباط كونها المستفيدة من الحضور والحصول على أكبر قدر ممكن من المغانم والمكاسب التي تتيحها لهم الإدارة، أما بقية العاملين المهمشين فإن غض الطرف عن تسيبهم يجعلهم في منأى عن العبث الإداري والفساد المالي الذي تمارسة إدارة المؤسسة.