المدينة المنورة – أسبغ اللَّه على عباده نعمه ظاهرة وباطنة؛ فالظَّاهرة ما يُرى بالأبصار من المتاع والتوفيق للطاعات، والباطنة ما يجده المرء في نفسه من العلم باللَّه وما يدفعه الله عنه من الآفات؛ واللَّه بحكمته حَجَبَ عِلم الغيب عن الخلق، ولا سبيل إلى معرفة الغيب إلَّا بما يُطلعه اللَّه على رسله، قال سبحانه: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً﴾، ومن نعم اللَّه الباطنة وعجائب صنعه الباهرة؛ أن أبقى جزءاً من النُّبوَّة لمعرفة بعض الغيب بما يُطلع عليه مَن يشاء من عباده في منامهم، قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: «لَمْ يَبْقَ مِنَ النُّبُوَّةِ إِلَّا المُبَشِّرَاتُ قَالُوا: وَمَا المُبَشِّرَاتُ؟ قَالَ: الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ» (رواه البخاري).
وللرؤيا مع الأنبياء شأن في أشدِّ المِحَن والأحداث، وهي وحيٌ لهم دون غيرهم؛ قال إبراهيم لإسماعيل عليهما السلام: ﴿يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ﴾؛ فرفع اللَّه مقام إبراهيم بتصديقه للرُّؤيا وامتثاله لأمر ربِّه، فأبقى له ثناء صادقاً جيلاً بعد جيل، قال سبحانه: ﴿وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ * سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ﴾.
ويوسف عليه السلام بدأت حياته برؤيا: ﴿يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ﴾؛ وتحقَّقَتْ بعز؛ ﴿وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً﴾.
وأصل تشريع الأذان إقرارٌ من النَّبيِّ لرؤيا رآها الصَّحابيُّ عبدُ اللَّه بنُ زيدٍ رضي الله عنه قال: «فَلَمَّا أَصْبَحْتُ أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرْتُهُ بِمَا رَأَيْتُ، فَقَالَ: إِنَّهَا لَرُؤْيَا حَقٌّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَقُمْ مَعَ بِلَالٍ فَأَلْقِ عَلَيْهِ مَا رَأَيْتَ فَلْيُؤَذِّنْ بِهِ» (رواه أحمد).
واللَّهُ حَفِظ نبيَّنا مُحمَّداً صلى الله عليه وسلم من تَمَثُّل الشَّيطان به، فمَن رآه في المنام فقد رآه حقّاً، قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ رَآنِي فِي المَنَامِ فَقَدْ رَآنِي؛ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَتَمَثَّلُ فِي صُورَتِي» (متفق عليه)، ومَن رأى النَّبيَّ في المنام لا يدلُّ على أنَّه خيرٌ من غيره، ومَن رآه على غير صفته الواردة في السُّنَّة والسِّيرة، أو رآه يأمره بباطل؛ فهي أضغاث أحلام – وهي ما يشبه الرؤيا الصادقة وليس منها -.
والرُّؤيا الصَّادقة جزء من النُّبوَّة، والنُّبوَّة وَحْيٌ، والكاذب في نومه كاذب على اللَّه أنَّه أَراه ما لم يَرَه، قال صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ مِنْ أَفْرَى الفِرَى – أي: أكذب الكذب -: أَنْ يُرِيَ عَيْنَيْهِ مَا لَمْ تَرَ» (رواه البخاري)، ويؤمر يوم القيامة بما لا قدرة عليه مبالغةً في التَّعذيب، قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ تَحَلَّمَ بِحُلْمٍ لَمْ يَرَهُ؛ كُلِّفَ أَنْ يَعْقِدَ بَيْنَ شَعِيرَتَيْنِ، وَلَنْ يَفْعَلَ» (رواه البخاري).
وهي وإن اختصَّت غالباً بأهل الصَّلاح فقد تَقَعُ لغيرهم؛ فقد عبر يوسف عليه السلام رؤيا صاحبي السِّجن فوَقَعَت.
ورؤيا النَّهار حقٌّ كرؤيا اللَّيل؛ دخل النَّبيُّ على أُمِّ حَرَامٍ بنتِ مِلْحَانَ رضي الله عنها، فَقَالَ عندها – من القيلولة في النَّهار -، فرأى رؤيا، فقَصَّها عليها، (متفق عليه).
ومَن رأى رؤيا يُحِبُّها استُحِبَّ له أن يَحمَد اللَّه عليها، وأن يَستبشِر بها، وأن يُحَدِّث بها مَن يُحِب، أمَّا الحاسد والكائد فلا يحدِّثهما بما رأى، قال يعقوب عليه السلام: ﴿يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً﴾.
ومَن رأى ما يكره يُسَنُّ أن يتعوَّذ باللَّه من شَرِّها، ومن شر الشَّيطان، ويبصقَ عن يساره ثلاثاً، ويتحوَّلَ عن جنبه الذي كان عليه، ولا يحدِّثَ بها أحداً، ولْيَقُم فَلْيُصَلِّ، قال النَّووي رحمه الله: «وَإِنِ اقْتَصَرَ عَلَى بَعْضِهَا أَجْزَأَهُ فِي دَفْعِ ضَرَرِهَا بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى؛ كَمَا صَرَّحَتْ بِهِ الأَحَادِيثُ».
وتأويل الرُّؤيا من علوم الأنبياءِ وأهلِ الإيمان، وهو عِلم عزيزٌ يجمع بين الموهبة والاكتساب، ونعمةٌ يَمُنُّ اللَّهُ بها على مَن يشاء، قال تعالى إخباراً عن يوسف عليه السلام: ﴿وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ﴾.
والتعبير فتوى لا يجوز لأحدٍ الخَوْضُ فيه بغير عِلم، قال يوسف عليه السلام للفَتَيَيْن: ﴿قُضِيَ الأمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ﴾، وهي مبنيَّة على القياس والتَّمثيل واعتبارِ المعقول بالمحسوس، قال ابن القيِّم رحمه الله: «أَمْثَالُ القُرْآنِ كُلُّهَا أُصُولٌ وَقَوَاعِدُ لِعِلْمِ التَّعْبِيرِ لِمَنْ أَحْسَنَ الِاسْتِدْلَالَ بِهَا، وَكَذَلِكَ مَنْ فَهِمَ القُرْآنَ فَإِنَّهُ يُعَبِّرُ بِهِ الرُّؤْيَا أَحْسَنَ تَعْبِيرٍ، وَأُصُولُ التَّعْبِيرِ الصَّحِيحَةِ إنَّمَا أُخِذَتْ مِنْ مِشْكَاةِ القُرْآنِ».
ومَن رَغِب في تعبير رؤياه فَلْيَتَخَيَّر مَن يُحسِن هذا العِلم، فليس كلُّ مَن تَصَدَّر يُحسِن أن يُعَبِّر، ولا مَن اقتصر على كُتب الرؤيا معبِّر، فلها حال مع الأشخاص والزمان والمكان؛ قيل لمالك رحمه الله: «أَيَعْبُرُ الرُّؤْيَا كُلُّ أَحَدٍ؟ فَقَالَ: أَبِالنُّبُوَّةِيُلْعَبُ؟!».
ومَن وهبه اللَّه حُسن التَّأويل فَلْيَلْزَم تقوى اللَّه وَلْيَبْتَعِد عن الرِّياء وحُبِّ الشُّهْرَة، وَلْيَسْأَل ربَّه العونَ والسَّداد، وَلْيَحْذَرِ العُجْبَ فإنَّه سالبٌ للنِّعَم، وليحمد اللَّهَ على هذه النِّعْمَة، قال يوسف عليه السلام شاكراً لنِعْمَة اللَّه: ﴿رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ المُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ﴾، والمُفتي، والمُعبِّرُ، والطَّبيبُ يَطَّلعون من أسرار النَّاس وعوراتِهمعلى ما لا يَطَّلِع عليه غيرُهم، فعليهم استعمال السَّتْر فيما لا يَحْسُن إظهارُه.
والرُّؤيا لا يَثبتُ بها شيءٌ من الأحكام، فالدِّين تمَّ بموت النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال الشَّاطبي رحمه الله: «فَائِدَتُهَا – أي: الرُّؤيا – البِشَارَةُ أَوِ النِّذَارَةُ خَاصَّةً، وَأَمَّا اسْتِفَادَةُ الأَحْكَامِ؛ فَلَا».
وأصدقُ النَّاس رؤيا أصدقهم حديثاً في اليقظة؛ قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: «أَصْدَقُكُمْ رُؤْيَا أَصْدَقُكُمْ حَدِيثاً» (رواه مسلم)، قال ابن حجر رحمه الله: «مَنْ كَانَ غَالِبُ حَالِهِ الصِّدْقَ فِي يَقَظَتِهِ اسْتَصْحَبَ ذَلِكَ فِي نَوْمِهِ، فَلَا يَرَى إِلَّا صِدْقاً، وَهَذَا بِخِلَافِ الكَاذِبِ وَالمُخَلِّطِ؛ فَإِنَّهُ يَفْسُدُ قَلْبُهُ وَيُظْلِمُ فَلَا يَرَى إِلَّا تَخْلِيطاً وَأَضْغَاثاً».
فالزم الصدق في الحديث، ولازم التقوى؛ تظفر بخيري الدنيا والآخرة.
الرُّؤيا الصَّادقة واقعة لا محالة سواء عُبِّرت أم لا، فيعقوب قال ليوسف عليهما السلام: ﴿لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ﴾ ومع هذا وَقَعَتْ، وأمَّا زمن وقوعها فقد تَقَع حالاً، وقد يتأخَّر وقوعها قليلاً أو كثيراً، قال عبد اللَّه بن شداد رحمه الله: «وَقَعَتْ رُؤْيَا يُوسُفَ بَعْدَ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَإِلَيْهَا يَنْتَهِي أَقْصَى الرُّؤْيَا»، وَلْيَعْلَمِ المسلمُ أنَّ ما يقضيه اللَّه له خيرٌ، سواء في العاجل أو الآجل.