المقالات

هل نحن بحاجة للعلوم الإنسانية اليوم؟

من أكثر العبارات المتداولة في هذا العصر عبارة “عصرنا اليوم عصر التقنية والعلوم” على فرضية أنه لا مكان للآداب والعلوم الإنسانية والاجتماعية في زمن سباق الآلة، وتطور اللوغاريتمات والبرمجيات المتقدمة والذكاء الاصطناعي !

ولا يمكن بحال رفض هذه العبارة لا سيما أننا نقر بأن التقنية حازت على صفتين جوهريتين اليوم: أولهما أنها حفظت بفاعلية أرواح الناس من المخاطر كالأمراض والكوارث البيئية والاعتداءات على المال والنفس، وثانيهما: أنها أسست بجدارة لحياة أكثر رفاهية من خلال تقريب البعيد، وربط المدن، وإضاءة الليالي المظلمة، وحفظ الموارد الغذائية لأطول وقت ممكن!

في خضم هذه الجدلية لا يمكن لأبيات من الشعر أن تكون بديلًا مناسبًا عن جهاز تحديد المواقع GPS لمن تاه في الصحراء ! ولا يمكن لبضع نصائح من علم النفس الإرشادي أن تكون خيارًا مناسبًا لمن يحتاج لعملية جراحية مستعجلة، ولا يمكن لمجموعة من قصائد البحتري أو أدبيات ماركس توين أن تحل محل أجهزة تنقية المياه أو نانو معالجة التربة !

هل يعني هذا أننا على موعد مع فناء العلوم الإنسانية أمام العلوم التقنية الصرفة؟ هل نحن اليوم مطالبون باعتزال اللغات واللسانيات وعلم الإنسان وعلوم الاجتماع والجغرافيا والتاريخ؟ هل كانت العلوم الإنسانية مُجرد “تهربج” لا يحفظ صحة البشر ولا يزيد من رفاهيتهم أسوة بالعلوم البحتة ؟

الإجابة أن الآداب التي شكلت الفكر الإنساني منذ أمد بعيد سبق الفلسفة الإغريقية والإسلامية وعصور التنوير ستستمر في خسارة الكثير من قيمتها إذا بقيت على منوال التنظير دونما رغبة في تحويل المنتج الأدبي إلى منتج علمي تقني يواكب متطلبات العصر واحتياجاته!

ما الذي يمنع علماء اللغة والأصوات من العمل على استثمار جزء كبير من أبحاثهم في كشف الجريمة، وتحليل الخطاب، وتتبع أكواد الإرسال والاستقبال لمعرفة تاريخ لغة ما أو أصل إنساني؟ ما الذي يمنع متخصصو العلوم الاجتماعية من تحويل نتاجهم الإنساني إلى خرائط تقنية تحدد الأصول والأنساب وتتبع الهجرات ومواطن نشوء التكتلات البشرية؛ لتستخدم كمرجع أدبي علمي دولي في فض النزاعات وإصدار القرارات؟ ما الذي يمنع المؤرخون الذين يشبهون “الحكواتي” من تحويل هذا العلم إلى علمي رياضي برمجي يوضح بمعادلات ما أن التصرف بطريقة ما وفقًا للتاريخ سيقودنا إلى نتيجة محددة؟

نحن لا ننكر قيمة الآداب واستنطاقها للمشاعر والجمال الإنساني كما هو الحال في الأدب والبلاغة والموسيقى والنحت والنقوش ! ولا ننكر أهمية الأنثربولوجي في معرفة فولكلور وعادات التكتلات البشرية ! ولا ننتقص من قيمة اللغة الرومانسية والكلاسيكية والسياسية ولغة الإشارة في إيصال رسائل محددة ! ما ننكره هو أن تقف هذه العلوم الإنسانية عند هذا الحد منذ آلاف السنين بمعزل عن العلوم والتطبيق!

دعونا نتذكر الحضارات البارزة، ومنها الإغريقية، وكيف كان التمازج فيها بين العلوم والآداب خلّاقًا ! دعونا نتذكر كيف امتزجت الموسيقى بالرياضيات عند اليونانيين، والفلك بالشعر عند العرب، والفلسفة بالثورة الصناعية في العصور الحديثة! دعونا نتفق على أن لكل تنظير تطبيقًا، وأن التنظير بلا تطبيق لا يشكّل سوى منتصف الطريق ! دعونا نتصارح أن الآداب ستفترسها العلوم في ظل تحول الأجيال إلى التقنية بجنون! ودعونا نتفق على أن الحل يكمن في المواكبة والمجاراة وأن الغلبة للأقوى !

دعونا نقولها بوضوح: لا مجال لأنسنة العلوم بالمفهوم الأدبي ولكن المجال واسع جدًا لتقنية الآداب ! معاشر الأدباء تذكروا بعُمق صاحبكم عمر الخيّام:
هُبّوا املأوا كأسَ المُنى قبل
أن تملأَ كأسَ العمرِ كَفَّ القَدَر !

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى