المقالات

مقالة الدموع !!

لم يخلق الله الدنيا دائرة عبثًا وإنما جعل الدوران رسالة كونية لعباده، يُشير بها إلى تغير الأحوال، ومن هنا كان التغير واستحالة دوام الحال من سنن الله في خلقه، وهذا من مصاديق حكم المسلمين القدماء القائلة : “الدنيا لناس بعد ناس”.
تذكرت هذه الحكمة البليغة بعد انتهاء زيارتي الأخيرة لجامعة “ويلز” بعد أكثر من عقدين من الزمن على تخرجي فيها، كانت البداية من محطة (هيوستن -لندن) لقطارات الشمال، في رحلة تستغرق أكثر من ست ساعات مع توقف لتغيير القطار في مدينة شيزبري.
حال وصولي إلى المدينة الجامعية ذهبت إلى مبنى الفيزياء المكون من خمسة طوابق ويقع على تلة جبل (بنقلايز) الشهير المطل على المدينة من ناحية الشرق، كانت غرفتي في الدور الخامس من المبنى، المكان هو المكان، غير أن الوجوه غير تلك التي أعرفها، الجميع حتى المستخدَمون الذين كانوا يقومون بمهمة نظافة وصيانة المبنى، وكنت أطلق على أحدهم (العم جيمس)، لكبر سنه، لم أعد أعرفهم.
ذهبت بعدها إلى الدور الرابع؛ حيث مكتب المشرف على فرع الجامعة أستاذ الرياضيات البحتة البروفيسور (موريس) عراب برنامج الإشراف المشترك مع جامعة الملك عبد العزيز للدراسات العُليا للطالبات، ذهبت إلى المكتب لأسأل عنه قيل لي: “البقاء لله”. ومنها إلى الدور الثالث؛ حيث مكتب المشرف على الطلاب الأجانب البرفسور أستاذ الإحصاء التخيلي (جون باستر فيلد)، وكان مكتبه يعج بطلبة الدكتوراة والماجستير، هو الآخر «البقاء لله». وفي نفس الدور، هناك غرفة أستاذ إحصاء السلاسل الزمنية البروفسور (جون لين) كان زميلنا في فريق الكلية لكرة القدم على الرغم أنه وقتها كان في الخامسة والخمسين من العمر، وبالمناسبة “لين” بالإنجليزية ترجمته -معبر أو طريق-، وكان أكثر طلبة (بروف جون) من الإخوة العراقيين وكانوا يطلقون عليه تندرًا (جون طريق) هو الآخر «البقاء لله».
بروفسور (ألن جونس) أستاذ إحصاء المحاكاة الفذ، أيضًا “البقاء لله”، وكذلك (بروف ما كيل جون) في تخصص (بحوث العمليات) هو الآخر “البقاء لله”، وقبلهم بسنين (أبو الإحصاء وأمه) -كما كان يقال-وأعني به البروفسور( ديفيد لندلي) أستاذ الإحصاء اللامعلمي “البقاء لله”. الكل غادر هذه الدنيا، سبحان الله الحي الذي لا يموت. أيقنت عندها صدق المثل الشعبي القائل: “الدنيا لناس بعد ناس”.
الوحيد من الرجال البروفيسور (بيتر جونز) رئيس قسم الرياضيات ما زال على قيد الحياة، وهو متقاعد بمنزله وقد جاوز الثمانين من العمر.
والوحيدة من النساء مشرفتي السيدة (سيلفيا لوتكنز)، هي الأخرى متقاعدة في دارها الجميل على قمة جبل (كارد يجان) المطل على خليج (كارد يجان) وقد تجاوزت المئة عام من العمر.
الجميل أن الجامعة قامت بتكريم هؤلاء العلماء بتسمية بعض قاعاتها بأسمائهم تخليدًا لهم؛ إضافة إلى وضع لوحات شرف داخل الكلية تحمل صورًا لهؤلاء العلماء الذين أثروا البشرية بعلمهم وخطت بذلك خطوات إلى الأمام، وتخرج على أيديهم المئات من الطلاب والطالبات من جميع أنحاء العالم وكتبهم ومؤلفاتهم ما زالت تُدرَّس إلى وقتنا الحاضر.
والجميل أكثر أنني وجدت لوحة شرف بمدخل المبنى بها صورتي مع مجموعة من طلبة الدراسات العليا والمشرفين في عام تخرجي، وهو تقليد يُعمل به مع كل دفعة على وشك التخرج.
غادرت الجامعة والدموع تنهمر من عيني؛ على فقد علماء اجلاء تتلمذت على ايديهم قبل اكثر من ثلاثة عقود في هذه الجامعة البريطانية العريقة؛ لذلك سأطلق على مقالتي هذه “مقالة الدموع”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى