المقالات

الخيرية

لقد أنزل المولى -سبحانه وتعالى- كتبًا تُنير لنا الطريق وتهدي الإنسانية سبل الرشاد، وتدعوهم إلى عمل البر وإقامة العدل والسعي بالمعروف بين الناس، ويتميَّز المسلمون بإيمانهم بجميع رسل الله وبالكتب المنزلة من عند الله، وتوقيرهم لرسل الله قال تعالى: (قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (1) ويتميزون أيضًا بإيمانهم أن الأنبياء جميعًا أرسلوا من أجل تحقيق عبادة الله وحده وعمارة الأرض، وحسن الخُلق والإحسان إلى الناس ونصوص القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم مليئة بذلك. قال تعالى: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا) (2) وقال -صلى الله عليه وسلم-: “أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم في الأولى والآخرة. قالوا: كيف يا رسول الله ؟ قال: الأنبياء إخوة من علات، وأمهاتهم شتى، ودينهم واحد، وليس بيننا نبي”(3) وقال -صلى الله عليه وسلم-: “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق”(4).
إن رسالة الأنبياء كما تقدم واحدة في الأصل ولم يكن الاتحاد فقط في الأخلاق العامة بل لقد كانت أصول العبادات واحدة من أجل هذا قال المولى -سبحانه وتعالى- عندما فرض على المسلمين الصيام: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (5) وقال عيسى -عليه السلام-: (وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا) (6) وهذا يُشير إلى قوة الروابط بين الديانات السماوية مما يجعل الحوار بينها ليس ممكنًا فقط بل ضروريًا لأن المسلمين يفتخرون بانتمائهم لأنبياء الله جميعًا وأصول دينهم ومنظومة الأخلاق التي قام عليها الإسلام متصلة في سلسلة غير منفرطة العقد إلى السابقين من أنبياء الله قال تعالى: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ۖ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا) (7)
ومما تقدم يتبين لنا بما لا يترك مجالًا للشك والتأويل أن جميع الأديان دعت إلى قيم الكرامة والإحسان، وتزكية النفس والدعوة إلى الخير وبسط العدالة، وإن اختلفت أساليبها وتنوعت طرقها؛ نظرًا لاختلاف الأزمنة التي نزلت فيها هذه الديانات والأمم التي تمت مخاطبتهم بمضمون تلك الرسالة.
واتحاد مضمون الرسالات السماوية هذا لعله يوحي بوحدة الجنس البشري في الأصل، ووحدة مصيره في المعاد؛ فكان لا بد أن تتحد القيم العظيمة التي تؤثر في تكوين هذا الجنس مع إقرارنا الكامل باختلاف البيئات، وما ينتج من ذلك من تأثير في التفكير والطباع؛ فالإنسان ابن بيئته وعصره، والمجموعة البشرية الواحدة التي تنتمي لجنس معين أو لون أو عرق أو موقع جغرافي لا بد أن تكون لها خصوصيتها التي تقتضي منا أن نأخذ في الاعتبار تلك الخصوصية سواء في التعامل العام أو إصدار الأحكام.
ولكن قمة اتحاد الجنس البشري تتضح جلية في المفاهيم العظيمة والقيم النبيلة التي أرساها آخر الأنبياء وخاتم المرسلين نبينا محمد -عليه الصلاة والسلام-. فلقد جاءت رسالته الجامعة، للناس كافة فهي تخاطب الإنسان قال تعالى: ) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ( (8) ومن هذه الرحمة الربانية أن أنزل الله عليه القرآن مفرقًا على مدى أكثر من عقدين من الزمان ليُثَبِّت الأحكام في قلوب المؤمنين قال سبحانه: ” (وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَىٰ مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلًا) (9) فبقي -صلى الله عليه وسلم- مدة الرسالة يعلم الناس أحكام الدين ويرسي قواعد الأخلاق ويزكي النفوس كما أراد له المولى سبحانه أن يكون في محكم تنزيله بقوله تعالى: (كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) (10) ولقد ظل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقوّم السلوك ويصلح المفاهيم ويعلي من شأن القيم التي أتت بها الديانات السماوية فهو كما وصف نفسه -عليه السلام- متمم لها وفي هذا تواضع عظيم منه واعتراف بما قدمه إخوانه الأنبياء من قبله، فلم ينسبها لنفسه ولكنه عليه السلام مثّل تعاليم القرآن وطبّق مكارم الأخلاق في نفسه وبهذا كان القدوة والمثل الأعلى حتى أجابت أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- عندما سئلت عن خُلُقه صلوات ربي وسلامه عليه بقولها: “كان خلقه القرآن” (11) وصدق الله سبحانه إذ يقول: (لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) (12).
ولما كانت منظومة الأخلاق هي من أعظم القيم الحضارية التي تقرب إلى الله وتؤسس لمجتمع يسوده الأمن والاستقرار امتدح الله تعالى نبيه -صلى الله عليه وسلم- بقوله: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (13) فلم يمتدحه سبحانه وتعالى بإنجازاته الأخرى، وهو حري -عليه الصلاة والسلام- بكل مدح بل أثني عليه بعظمة خُلُقه وعلو سلوكه، وفي هذا دلالة عظيمة على أهمية هذا الجانب وعلو شأنه ورفعة مكانته ودوره الكبير في بناء الأمم وتقدم الشعوب، ولقد أمر الله سبحانه وتعالى المؤمنين بالتأسي برسول الله -صلى الله عليه وسلم- وربط محبته تعالى لخلقه باتباع هديه -عليه السلام- حيث قال: (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (14) ويستفاد من الآية أن من نتائج هذا الاتباع مغفرة الذنوب.
لقد غيَّر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خلال فترة الرسالة الوجيزة المفاهيم ولم يحدث تغييرًا في السلوك فحسب بل حتى في أسلوب التفكير والسلوكيات ففي الحديث: “ليس الشديد بالصرعة ولكن الشديد من يملك نفسه عند الغضب” (15) وفي مسألة التثبت وعدم الاكتفاء بالقرائن في غياب الأدلة الواضحة يقول عليه السلام: “إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث” (16) وفي مسألة التثبت في النقل وعدم السعي وراء الشائعات التي قد تكون مغرضة في بعض الأحيان أو قد تكون بدافع الانتقام في أوقات أخرى أو منشأها الغيرة والحسد وهذا كثير يحذر القرآن الكريم من كل ذلك بقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) (17) بل إن النبي -صلى الله عليه وسلم- وصف من يحدِّث بكل ما سمع دون تثبت بصفة ذميمة حيث قال: “كفى بالمرء كذبًا أن يحدث بكل ما سمع” (18). وحول أهمية عدم التعرض للناس بالأذى وكف الإنسان يده ولسانه يقول -صلى الله عليه وسلم- للصحابة متسائلًا: “أتدرون من المفلس؟” قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع قال -صلى الله عليه وسلم-: “إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته فإن فنيت حسناته من قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار”. (19)

هكذا أسس النبي -صلى الله عليه وسلم- لمفهوم جديد يُغاير مفهوم الصحابة لمسألة الإفلاس، وفي ذات الوقت يؤكد معنىً آخر وهو أن الإنسان يفسد ما قام به من الأعمال الصالحة بتعرضه للآخرين بالسوء. أيًا كان هذا الآخر فلم يحل الإسلام إيذاء غير المسلم بغير وجه حق أو التعرض له بالسوء.
لقد غيَّر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بهذه القيم التي هي أساس الدين الإسلامي وأساس كل الأديان السماوية أن يؤسس لمستقبل مشرق وغدٍ واعد تشرق فيه شمس الحرية بقيم التسامح وتسود فيه العدالة والمساواة والعمل الدؤوب لإصلاح ما فسد والاستفادة من طاقات الجميع وإعطاء كل فرد من أفراد المجتمع الفرصة التي يستحقها ليعيش عيشة كريمة وليُثْبِت ذاته في المجال الذي يجد فيه نفسه دون أن يعيره أحد بماضيه وماضي أسلافه ونجد ذلك جليًا في نهي النبي -صلى الله عليه وسلم- الصحابة -رضوان الله عليهم- عن إيذاء عكرمة بن أبي جهل بسبب ما اقترفه والده وعكرمة من قبل وقد حسن إسلامه فيما بعد. بل إن كثيرًا من الصحابة -رضوان الله عليهم- قد تعرضوا للإسلام ولشخص النبي -صلى الله عليه وسلم- بالإيذاء قبل إسلامهم. وقابلهم النبي -صلى الله عليه وسلم- بصدر رحب ويد مبسوطة عملاً بقول الحق سبحانه: (قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِن يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ ((20) وهكذا مع إيذان فجر الإسلام تم فتح صفحة جديدة لكل من آمن واتبع هدي النبي -صلى الله عليه وسلم-.
إننا اليوم بحاجة ماسة لهذه القيم النبيلة في مجتمعاتنا التي تشهد تغييرًا سريعًا لتأتي نتائج التضحيات التي بذلت من أجل إحداث التغيير كما نتمناه جميعًا. وهذا لن يتم إلا إذا أخذت النخبة زمام المبادرة وأخذت مكانتها التي تستحقها في قيادة الرأي العام وتوجيهه المسار الصحيح مستنيرة بقيم الدين الحنيف بعيدة عن الأحكام الوقتية العاطفية التي قد تكون ذات عواقب لا تحمد عقباها. إن الاشتغال بالقضايا الجانبية وافتعال المعارك التي لا جدوى منها والانجرار وراء كل فتنة عامل أساسي في إعاقة التقدم، وإيقاف عجلة الإنتاج ونشر الحقد والكراهية في المجتمع.
إن عالمنا اليوم يعيش مرحلة تتطلب إحياء هذه القيم العالمية وإحداث تغيير كلي في طريقة التفكير، وأخذ زمام الريادة في هذا المجال الحيوي العظيم الذي تفرد به ديننا الحنيف، ونحن كمسلمين مطالبين بإحياء هذه القيم في أنفسنا وجعلها أساسًا للتعامل بيننا وبين الآخر لتكون قاعدة للتواصل بين الناس جميعًا على اختلاف أديانهم ومعتقداتهم. وإذا ما تمكنا من تحقيق ذلك فنحن بهذا نكون قد حققنا مطلبًا كبيرًا من مبادئ ديننا وأسهمنا بشكل كبير وجدي في إزالة تلك الصورة المشوهة التي يريد إلصاقها بالإسلام والمسلمين. والمستقبل مبشر والغد واعد والأمل في الله كبير وهو أهل التقوى وأهل المغفرة سبحانه.

(1) البقرة: 136
(2) البقرة: 83
(3) صحيح مسلم: 2365
(4) البخاري-الأدب المفرد: 273
(5) البقرة: 183
(6) مريم: 31
(7) الأحزاب: 7-8
(8) الأنبياء: 107
(9) الإسراء: 106
(10) البقرة: 151
(11) البخاري-الأدب المفرد: 234
(12) الأحزاب: 21
(13) القلم: 4
(14) آل عمران: 31
(15) صحيح البخاري: 5785
(16) مسند الإمام أحمد: 16/99
(17) الحجرات: 6
(18) مسلم: 772
(19) مسلم: 4678
(20) الأنفال: 38

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى