حوار – محمد بربر
يكتب الشاعر الكبير أحمد الشهاوي النص النثري لينتصر على نفسه، هكذا يكشف عن وجدانه وعلاقته بالشعر، مؤكدًا أنه يستعد لكتابة شعرية ينتظرها، كما يؤمن بأنَّ الشَّاعرَ الجيِّدَ ناثرٌ جيدٌ أيضًا، خصوصًا وأن روايته “حجاب السّاحر” منحته قارئًا آخر، في هذا الحوار نتحدث عن الأجناس الأدبية والقرية المسكونة بالحكي وعوالم الأساطير والخُرافات والسحر والعلوم الباطنية، ونقترب من تقنيات الروائي ونظرته للفن والتراث العربي.
نبدأ من الرواية.. كيف اختمرت فكرة “حجاب السَّاحر” وكيف تلقيتها؟ وهل كنتَ تتوقَّع نجاحها على مستوى التوزيع والتلقِّي فضلًا عن وصولها إلى القائمة الطويلة لجائزة زايد للكتاب؟
• أنا أكتبُ فقط لمُتعتي الشَّخصية، كما أنَّ عملي هو الكتابة طَوالَ حياتي، وليس لي مهنةٌ أخرى أزاولُها ؛ ليس لأنَّني صحفيٌّ في مؤسسة الأهرام، درس الصحافة وامتهنها ؛ إذ إنَّ الصحافة شيءٌ وكتابة الأدب شيءٌ آخر تمامًا؛ ولذا أعتبرُ القراءةَ مهنةً مثلها مثل الكتابةِ تمامًا، وإنْ كانت القراءةُ أكثرَ مُتعة، وبشكلٍ عام أنا كلما قرأتُ مئة صفحة أكتب فقط مئة كلمة، وربَّما أقل أو أكثر، وقراءاتي لها طريقان: الأول للمُتعة والمعرفة، والطريق الثَّاني وظيفيٌّ يهدفُ إلى معرفة موضُوعٍ مُعيَّن، وتلك القراءة تُذكِّرني بسنوات المُذاكرة في المدرسة والجامعة، أي أنَّ القراءة الوظيفية تسْهمُ وتدعمُ وتفتحُ أفقًا آخر لي وأنا أكتبُ. وللقراءة الوظيفية عندي نوعٌ من المكتبات المُتنقِّلة أو المُتحرِّكة من مكانٍ إلى آخر داخل البيت، غير مكتباتي الشَّخصية الموجُودة في أكثر من بيتٍ، دعني أفسِّر : إذا كُنتُ مُقبلًا على كتابة نصٍّ لي أو شهادة أو مقالٍ ما ؛ فأنا أجمعُ ما يتيسَّرُ لي من كُتبٍ يمكنُ أن تفيدَني في هذه المكتبات المُتنقِّلة . وعمومًا أعتبرُ نفسي تلميذًا مُجتهدًا يتعلَّم كل يوم جديدًا في عالم القراءةِ والكتابة، ومن يرى نفسه مُعلِّما أو أستاذًا فلن يضيفَ شيئًا إلى تجربته، ويصبح كل ما يكتبُهُ من قبيل المُراكَمة وإعادة الإنتاج، واجترار الذَّات.
ولم تكُن كتابة الرواية مُفاجأة لمن يعرفونني أو هم قريبون منِّي ؛ لأنَّني بطبيعة الحال قارىءٌ جيدٌ للرواية، وطوال حياتي أمتلكُ صداقاتٍ عميقةً مع أبرز كُتَّاب الرواية في مصر وغيرها من البلدان العربية، كما أنَّني حكَّاء بالفِطرة، وجئتُ من قريةٍ ملأى بالأساطير والخُرافات والسحر والعلوم الباطنية، ومسكُونة بالحكي، كما أنَّ موقعها الجُغرافي في حِضن النِّيل جعلها أشبه بجزيرةٍ كبيرةٍ مُنعزلةٍ يسكنُها النيل وتسكنُهُ، وكل منهما يبثُّ الآخرَ أسرارَه وبواطنَه وعوالمَه السِّحْرية العجيبة، هي قرية التصوُّف والسِّحْر والعلم أيضًا ،ويمكن أن أسمِّيَها : “سرّ الأسرار” .
وقد عِشتُ أولِّدُ أفكارًا روائيةً لغيري، وقد عايشتُ تجاربَ عديدةً وغريبةً ومُهمَّة ومُلْهِمة فعلت فعلَها في رُوحي، ورأيتُ أنه آن الأوانُ لكتابتها، وهأنذا أواصلُ كتابةَ الرواية جنبًا إلى جنب الشِّعْر الذي هو هُويتي واسمي، ولا يعني كتابتي الرواية أنَّني تخليتُ عن الشِّعْر الذي هو حُلمي ومسعَاي في الحياة الثرية التي أعيشُها .
ورواية ” حجاب السَّاحر ” قد أخذت مني وقتًا طويلًا في كتابتها، حيثُ كتبتُها خلال خمس سنوات وليس بشكلٍ مُتصلٍ، ولن أكرِّر مسألة الانقطاع هذه مرةً أخرى ؛ لأنَّ الرواية تحتاجُ إلى تفرُّغٍ ومُواظبةٍ ومُواصلةٍ ومُتابعةٍ يوميةٍ، ومُعايشةٍ مُستمرةٍ مع الشخصيات، لكنَّني مارستُ عادتي أو تقليدي في عرضِ ما أكتبُ على عددٍ قليلٍ من أصدقائي القريبين لأئتنسَ بآرائهم في النصِّ، كما أنَّني حادٌّ في التعامُل مع نفسي في مسألة مُمارسةِ الحذْفِ داخل النصِّ قبل أن أدفعَ بهِ إلى المطبعة .
وأنا لا أنشغلُ بالمردُود اليوميِّ، أو أصداء الكتابة من النقَّادِ والكُتَّاب عن عملٍ أدبيٍّ لي، فبمُجرَّد صدور عمل جديد لي، يصبحُ غريبًا عني بمُجرَّد خرُوجه من المطبعة، ولا شك أنَّني محظوظٌ بردُود الأفعال حول روايتي ” حجاب السَّاحر “، وكونها وصلت إلى اللائحة الطويلة لجائزة زايد للكتاب سنة 2023 ميلادية ،فهذا أمرٌ مشجِّع، وهذه هي المرة الرابعة التي يصلُ فيه عملٌ لي إلى القائمة الطويلة لجائزة زايد للكِتَاب، وقد حدث ذلك مع ثلاثة كُتب شعرية لي صدرت جميعا مثل الرواية عن الدار المصرية اللبنانية هي : سماءٌ باسمي، لا أراني، ما أنا فيه .
– بعد سنوات طويلة مع الشعر، يتجه أحمد الشهاوي إلى الرواية.. ما الذي حدث؟
• أنا مع أن يُجرِّبُ الكاتبُ أشكالًا كثيرةً وأجناسًا أخرى في الكتابة، مثلما كان يفعلُ العربيُّ والمسلم القديم، حيثُ كان يمارسُ علوم الطِّب والفلك والكيمياء والهندسة وعلم المعادن والفلسفة والصيدلة والدِّين والشِّعر في الوقت نفسه ؛ فيكفي أن أقولَ إنَّ واحدًا فقط هو جابر بن حيان ” 101 هجري/721 ميلادي – 199 هـجري/815 ميلادي )
قد برعَ في كلِّ هذه العلوم باستثناء الشِّعر
( وإنْ كان له كِتابٌ هو “كتاب الشِّعر” لكنَّني لم أطَّلع عليه، ومنه نسخةٌ بالمُتحف البريطاني بالمجموعة رقم ٧٧٢٢ نمرة ٥) . . وقد قيل إنَّ لجابر بن حيّان في الكيمياء ما لأرسطُو (384 ق.م – 322 ق.م) في المنطق.
ولم يكُن هناك أحدٌ في ذلك الزَّمان يندهشُ أو يتعجَّب لأنَّ فلانًا ذهبَ إلى الشِّعْر مثلًا بجانب الطِّب أو الفلك ؛ لأنَّ الشَّائع في ذلك الوقت هو الجمعُ بين أكثر من فنٍّ وأكثر من علمٍ . وربَّما قد أكونُ من سُلالة هؤلاء حيثُ أكتبُ في فلسفة الدين، وأدب العِشق، والشِّعر، وأدب التصوُّف، والرواية، وأمارسُ الفنَّ التشكيلي من وقتٍ إلى آخر . وأنا عمليًّا لم أتجه كليًّا إلى الرواية أوأغادر مكاني ومكانتي في الشِّعْر، ولكن صار عليَّ أن أكتبَ روايات تتصلُ – بشكلٍ أو بآخر- بهمُومي وسيرتي واهتماماتي وأمور أخرى أنا مشغولٌ بها ومهجُوسٌ، ولأكُن صريحًا وأقول : إن الرواية منحتني قارئًا آخر لم يكُن موجودًا مع الشِّعر، كما أنها أعطتني مساحةً عريضةً لأعرضَ أفكارى وأكشفَ اهتماماتي، وأكسبَ منطقةً أخرى – في بضعة أشهر – جعلت أصحابُها من القُرَّاء يبحثون عن كُتبي الأخري، ويكفي أن أقولَ إنَّ هناك كُتبًا أخرى لي نفدت بسبب ذيُوع روايتي ” حجاب السَّاحر ” وانتشارها بين فئاتٍ كثيرةٍ من القرَّاء عربيا ومصريًّا لم تكُن معي .
– الشاعر أحمد الشَّهاوي ينجحُ دائمًا في الجمع بين الشعر والكتابة النثرية.. كيف ترى تنوع الأجناس الأدبية لدى المبدع؟
• منذ بداياتي وأنا أكتبُ النصَّ النثريَّ، لا لأنتصرَ على نفسي ولا على الشِّعْر، ولكن ربَّما لأستعدَّ لكتابةٍ شعريةٍ أنتظرُها، وأنا من الذين يؤمنُون بأنَّ الشَّاعرَ الجيِّدَ ناثرٌ جيدٌ أيضًا، وكنتُ بين كل كتابيْن شعرييْن لي أكتُب كتابًا نثريًّا، والغريب أنَّ الكتبَ النثريةَ قد حقَّقت شهرةً أوسعَ من الشِّعْر الذي هُو نشاطي الأساسي وعُنوان بيتي في هذه الدُّنيا، والدَّال عليَّ، حتَّى أنَّ كتابًا مثل ” الوصايا في عشق النساء – الكتاب الأول ” – الذي صدرت طبعتُهُ الأولى سنة 2003 ميلادية -قد بيع منه ما يزيدُ على ثمانين ألف نُسخة، غير النُّسخ المُصوَّرة بطريقة ” البي دي إف”، وكذا النُّسخ المُزوَّرة، كما أنَّ “أحوال العاشق” – الذي صدرت طبعته الأولى سنة 1996 ميلادية – قد وزَّع فوق الأربعين ألف نسخة، وهذا التوزيع قد حدث تقريبًا مع كل كُتبي النثرية، كأنَّ الناسَ لم تعُد تحبُّ قراءة الشِّعْر، أو أن الشِّعْر صار يحتاجُ إلى قارىءٍ من نوعٍ خاص .
وأنا من الذين يؤمنون بأنَّهُ لا يوجدُ نصٌّ نقيٌّ مئة في المئة، ولذا فقد استخدمتُ أساليبَ وتقنياتٍ كثيرةً في روايتي ” حجاب السَّاحر ” – التي صدرت في سنة 2022 ميلادية – مثل السيرة الذاتية، والشِّعْر، وأدب الرسائل، والأدب الجغرافي، وأدب الرحلة، والتحقيق الصَّحفي، لأنَّ الأدبَ ظاهرةٌ إنسانيةٌ متطوِّرةٌ، ولا ينبغي أن نتوقَّفَ عند شكلٍ ما مُتكرِّر وثابتٍ ؛ لأنَّ الكتابةَ هي التي تفرضُ شكلَها ولغتَها، وهي التي تكسرُ الحدُودَ ولا تحبُّ القولبة، ومنذ كتاباتي الأولى التي استفدتُ فيها من القرآن والنصُوص الصُّوفيَّة والإرث الديني بشكلٍ عام والتراث العربي، وأنا أنحُو تجاه التعالُقِ أو الترافُدِ أو التناص، حتى يمكنَ للقارىء أو الناقد أن يسِمَ نصِّي ب “النص الجامع أو النص المفتُوح أو النص الحُر” وهذا قد تحقَّق بشكلٍ كبيرٍ في روايتي ” حجاب السَّاحر ”
فهذا العمل مفتوحٌ على الأجناس والأنواع الأخرى، تحقيقًا – ربَّما – للمقولة الشَّهيرة “الرواية ملحمة العصر الحديث”.
وإذا كُنتُ ابنًا للموسيقى والغناء في كل تجلياتهما، وكذا الفن التشكيلي الذي أعتبر نفسي مولودًا في سريرين أحدهما من الحروف، والآخر من الألوان، فنصي يُزَوَّدُ من الأجناسِ والأنواع كُلها، وهو نصٌّ حُرٌّ من التقاليد الموضُوعة سلفًا، وينحدرُ من ثقافاتٍ مختلفةٍ فيت نوُّعها الثقافي والحضاري .