حين أحيل عدد من القامات العلمية السعودية للتقاعد أحسست بألم استقر عميقًا في نفسي، حدث ذلك منذ سنوات. وكان أولئك مجموعة من الأساتذة والمتخصصين في التخصصات الإنسانية والتربوية من كليات التربية والآداب.
أقول هذا لأنني من حينها وحتى اليوم أرى ترجل المفكرين والأساتذة والمختصين واحدًا تلو الآخر لوصولهم سن الـ 58 عامًا ميلاديًا؛ تغادر هذه القامات العلمية الخدمة في الجامعات قسريًا فيتوقفون عن التدريس والإشراف والبحث العلمي، وذلك حدث محزن يضيق به صدري ويحتار فيه فكري.
ولاهتمامي الكبير بموضوع حيوي للجامعات وهو سن التقاعد للأكاديمي عدت إلى عدد من الممارسات العالمية في هذا الصدد، ووجدت أنه وحتى عام 2000 أو نحو ذلك بعض الجامعات الكندية، على سبيل المثال-وبعض هاته الجامعات تتبوأ مراكز مهمة ضمن التصنيفات العالمية- يحال عضو هيئة التدريس فيها للتقاعد لدى بلوغه سن الـ 65، فانزلق الكثير من أولئك إلى الاكتئاب بل وماتوا عندما أجبروا على المغادرة قبل أن يكونوا مستعدين! على أن بعض من يبدأ العمل الأكاديمي في تلك الجامعات يكون قد التحق بالوظيفة قبل الستين بقليل. ثم تم اعتماد اتاحة العمل الأكاديمي بدون سن معين للتقاعد في الجامعات الكندية.
ومما لا شك فيه أن فقدان عضو هيئة التدريس بتلك الطريقة بعد أن أفنى حياته بتلك الوظيفة وراكم خبرات عبر سنين طويلة كان معيدًا وحتى وصوله إلى أن يكون أستاذاً، يشكل صدمة كبيرة، ولا سيما عند وجود الرغبة والقدرة الكاملة على العطاء لدى بعض أولئك الأكاديميين!
وأود القول، في هذا السياق، إنني أؤيد عدم وجود تقاعد إلزامي لأي مهنة ولأي تخصص بناءً على مبدأ اقتصادي هام، وأنا أشير هنا إلى الخبرة التراكمية التي تشكلت لدى عضو هيئة التدريس الأكاديمي بعد أن بذل جل حياته لبنائها؛ إنها خبرات تدريسية وبحثية طويلة وتمتد لعقود، وما أن يصل إلى قمة عطائه وخبرته يتفاجأ بقرار تقاعده على هذا النحو الذي تجسده العبارة: “طريق الخروج من هنا”. منذ سنوات مضت كان يسمح لعضو هيئة التدريس بالتجديد لغاية ثلاث سنوات بعد الهجرية 58 أي 61. ولكن ذلك أيضًا لم يعد ممكنًا للأساتذة والباحثين والعلماء في التخصصات الإنسانية. وقد أشرت إلى ذلك في مقالي السابق التخصصات الإنسانية مرابض الفكر والعلم.
إنني لآمل- وأمامي مزيد من الوقت للأمل قبل بلوغ التقاعد الإلزامي- أن نحذو حذو الجامعات لن أقول الكندية العريقة والأمريكية المصنفة ولا الآسيوية في اليابان وكوريا والصين وسنغافورة والهند بل لن أنادي بأن نذهب بعيدًا عن مصر العروبة حيث يبقى عضو هيئة التدريس يشرف على طلبة الدراسات العليا ويدرس في كليته وقسمه حتى بلوغ السبعين أو الثمانين. إنه لمن المعيب حقًا أن يتقاعد الأكاديمي من كل عمل له علاقة بما قضى حياته من أجله وبعد أن راكمَ كل تلك الخبرات في البحث العلمي والإشراف والتدريس.
إن مغادرة عضو هيئة التدريس لعمله بتلك الطريقة الإجبارية يشكل هاجسًا يشغل بال الكثيرين ولا سيما أولئك الذين ذهبوا للتعليم في الخارج ولم يشاهدوا إلا عكس هذه الممارسات وهي بقاء الأكاديمي متى ما أراد البقاء وتقديم محاضراته وعلمه لطلابه من أروقة الجامعات التي ينتمي إليها. وثمة أمثلة لا أستطيع حصرها في هذا المقال لأعضاء منتمين لجامعات كندية وأمريكية عريقة يحاضرون وهم في سن الثمانين. وقد يقول قائل لا شيء يمنع الأكاديمي من الاستمرار في العمل من خلال مكاتب استشارية أو العمل الجزئي في الجامعات الخاصة؛ لكن ذلك لا يسمن ولا يغني من جوع لمن اعتاد الخروج لطلابه لعقود من مكتبه الأكاديمي في جامعته، وهو دليل قوة ومصدر اعتزاز بعد سنوات خدمته في شبابه لصرحه التعليمي.
وإنني أتفهم أن الكثير من الأكاديميين أدمنوا العمل بين الكتب وإنتاج الأبحاث والإشراف على الطلبة غير أن ذلك لا يغني عن بقائه وعمله في بيته الأساسي، أعني جامعته التي حمل اسمها وحملت اسمه لعقود.
وليس ثمة شك في أن وجود الأكاديمي المخضرم ذي الخبرة والباع الطويل في التعليم العالي يشكل أهمية كبيرة لسمعة ومكانة الجامعات الوطنية. سيسمح التقاعد المفتوح أو التعاقد (بعقد سنوي) الفوري والمباشر بعد وصول ال 60 بالجدل ولكن، في كل الأحوال، سيجلب عضو هيئة التدريس الخبير الباحث قيمة كبيرة للجامعة التي ينتمي إليها؛ ومن المؤكد أنها قيمة اقتصادية وقيمة علمية ليس من السهل تعويضها.
في ختام هذه التناولة السريعة لهذا الموضوع، وتأسيا ببرنامج القدرات البشرية الذي أطلقه سمو الأمير محمد بن سلمان ولي العهد ورئيس مجلس الوزراء يحفظه الله في رؤية المملكة أناشد صانع القرار في الوزارة بالاحتفاظ بعضو هيئة التدريس العالم والخبير والباحث، وأقول ناصحةً، ومن وجهة نظري الشخصية: لا تجبروا هؤلاء العلماء الأكاديميين على التقاعد على هذا النحو المؤسف. حقًا، لقد غدت قضية التقاعد المبكر جدًا والإلزامي اليوم لأعضاء هيئة التدريس في التخصصات الإنسانية قضية هامة، لأن هناك قيمة مضافة اقتصادية وعلمية كبيرة من بقائهم على رأس العمل في جامعاتهم وأقسامهم الأكاديمية وينبغي أن تخضع للرغبة والاستعداد والقدرة على العطاء والبذل، وليس بناءً على العمر الذي ليس له علاقة بالإنتاجية، وأعود وأقول بكل صدق إن هذا الأمر يحتاج إلى إعادة نظر!