المقالات

كليات التربية.. منارات العلم ومنابع الفكر

في مقالي السابق المعنون بـ “التخصصات الإنسانية: مرابض الفكر والعلم” أشرت إلى قيمة التخصصات الإنسانية وكونها الأساس للتعليم العالي تاريخيًا؛ وحقًا، يعد التعليم الجامعي، ولا سيما في التخصصات الإنسانية مهمًا بل وضروريًا لعدة أسباب، من أهمها أن الفرص الوظيفية الأفضل في المستقبل سوف تبنى على التخصصات الإنسانية، والتي من بينها اللغات والترجمة، وعلم النفس، والتخصصات الشرعية، والتعليم والتربية. أضف إلى ذلك أن التخصصات الإنسانية ضرورة ملحة لأي أمة أو شعب، ولذا تهتم الدول المتقدمة بها. وليس ثمة شك في أن هذه التخصصات تعزز تنمية المهارات، والتعلم الشامل، وتساعد على النمو الشخصي والتنمية، كما تغرس الثقة بالنفس؛ ولا شك أيضًا، أن التخصصات الإنسانية بتركيزها على المهارات تقود إلى رفاهية المجتمع، والنمو الاقتصادي، وتنمية الأمة حيث لها قيمة عظيمة لعلاقتها بالإنسان وفكره وثقافته.
ولا يخفى على ذي لب أن العالم اليوم يواجه تحديات كبيرة حيث إن الثورة الصناعية والتقنية يخلقان ثروات هائلة لكن يولدان انقسامات اقتصادية عميقة وعدم توازن قيمي مما يستدعي التمسك ليس فقط بالتخصصات الإنسانية عامة بل بكليات التربية وبرامج إعداد المعلمين على وجه الخصوص. فالتدفق الهائل من المعلومات والزخم التقني العالي العالمي يجعل المجتمعات المحلية بحاجة إلى معالجة مشكلات المجتمع والهوية التي يترتب عليها قضايا ذات طبيعة متشابكة جديدة ومعقدة تتعلق بالتعليم أولًا، وكل القضايا الأخرى المتعلقة به مثل الاقتصاد والصحة وعلم النفس وعلم الاجتماع.
ومنذ إنشاء كلية المعلمين (التابعة لجامعة كولومبيا الأمريكية) وهي واحدة من أعرق كليات التربية في العالم وهي تسعى إلى الدمج بين الاهتمامات الإنسانية والنهج العلمي الواسع النطاق للتنمية البشرية والذي يقوم على العلاقة المتبادلة بين أربعة مجالات واسعة: التعليم والتقنية والصحة والاقتصاد. وبمراجعة سريعة للجامعات العالمية الغربية والآسيوية ودور كليات التربية، نجد مثلًا، أن في كندا وحدها 137 برنامجًا تربويًا في 33 جامعة، ولم أجد برنامجًا واحدًا تم إلغاؤه أو إيقاف القبول فيه. وعلى الرغم من بحثي المستمر عن حيثيات هذا الإغلاق وبعد مراجعتي الدقيقة لإحصاءات حول معدل الولادات السعودية لا يبدو لي أي تراجع فيها فهناك 3 ملايين طالب يذهبون للدراسة في مدارس التعليم العام على مستوى المملكة. إذن، ما العوامل الديموغرافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية الأخرى الجارية والتي دعت لإيقاف البرامج التربوية؟ هل يحتوي المستوى الثانوي (الإعدادي والعليا) على عدد كافٍ من المعلمين في الوظائف لنقل هذه المجموعة إلى مراحل أخرى؟ وهل لا يوجد عدد كافٍ من طلاب المرحلة الابتدائية في الوقت الحالي، لذا لا توجد وظائف هل بالإمكان التوصية بوقف قبول المعلمين قبل الخدمة (حسب المستوى) لبضع سنوات بدلاً من إلغاء البرامج كلها؟ وثمة أسئلة أخرى في هذا السياق تطرح نفسها وتحتاج إلى إجابات واضحة ومحددة.
إن مما يحز في النفس أنه ومنذ ما يزيد على ستة أعوام توقفت برامج إعداد المعلم، وتحولت كليات التربية إلى الدراسات العليا التربوية أي الماجستير (رسالة أو مقررات فقط) والدكتوراه والدبلوم العالي فقط، بل إن عدداً من كليات التربية في الجامعات السعودية غيرت مسماها ليعكس محتواها الجديد.
أقول هذا وأنا أرى تنوعًا كبيرًا في التخصصات المتاحة لخريجي الثانوية العامة عكس الأمس القريب حيث كان التخصص المتاح لهم هو الالتحاق بمهن التعليم أو الطب والتمريض وخاصة للفتيات. حقًا، لقد أصبحت اليوم كل التخصصات والمهن متاحة للجنسين؛ وبالتالي لن يكون هناك زخم في التقدم للالتحاق بكليات التربية التي ستشترط معايير عالية لتتناسب مع مهنة التعليم وخصوصيتها الكبيرة؛ وبالتالي سوف يكون هناك كليات تربية نوعية وبرامج إعداد للمعلمين بعد التخصص الجامعي لإعداد معلمي الرياضيات والعلوم واللغة العربية والتربية الخاصة حسب التوجهات العالمية ليس فقط من حيث المقررات والبرامج بل الشمول لنوع جديد من أساليب التدريس وهو التدريس الذي يعكس فهمًا لخلفيات المتعلمين، وكيفية تقديم المواد بطرق ذات صلة وذات معنى. على أن الحياة الجديدة المتطورة خلقت عناصر أو تخصصات جديدة من الممكن أن تشملها كليات التربية، منها الذكاء الاصطناعي الذي يمكن فهم تطبيقاته وبرامجه في سبيل خدمة التعليم والارتقاء به.
إذا ليس الحل إغلاق البرامج التربوية، وليس الحل أن توقف كل برامج إعداد المعلم وفي كل الجامعات، ليس حلًا أن تغير كليات التربية جلدها وتسند ساعات منسوبيها من متخصصين وأساتذة وباحثين لتدريس مقررات خارج كلياتهم وتخصصاتهم، بل الحل أن يعاد تصميم برامجها لتواكب التطور لمواجهة تحديات العولمة، ولا بد أن تعكس الوعي الجمعي للعلماء في التخصصات الإنسانية والممارسين في مجال التعليم من الطفولة المبكرة وحتى مراحل الدراسات العليا؛ كما أن الاحتياج لبرامج إعداد المعلم وتنوعها وبرامج الدراسات العليا التربوية يجب أن يكون من خلال تعزيز قدرة المؤسسات التربوية على الربط الديناميكي بين النظرية والبحث العلمي والممارسة وذلك لتلبية احتياجات العصور اللاحقة والمستقبل الاستشرافي لتكون كليات التربية من جديد مصدر إشعاع حضاري ومنابر للعلم والمعرفة بتخريج المعلمين والمتخصصين في المجالات التربوية المختلفة.
فهل سنشهد قرارات تصحيحية، أو تعديلية، إذ شئتم، في تلك القرارات الأخيرة، بناء على الحجج التي أشرت إليها في هذه المقالة؟ أتوقع ذلك، ولا سيما في ظل توجهات ولي العهد سمو الأمير محمد بن سلمان اللافتة والمطمئنة في إعادة الاعتبار للتخصصات الإنسانية، كما يٌفهم من إعلانه الأخير عن برنامج القدرات البشرية، وهو ما يعد دليلًا كافيًا على اهتمام المملكة بكل ما من شأنه الارتقاء بالمجتمع بتوازن وعدالة.
والله من وراء القصد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى