حديث سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان لقناة “فوكس نيوز” بكل ما انطوى عليه من مصداقية وشفافية وضع النقاط على الحروف في كل ما يتعلق بسياسة المملكة، وما حققته من إنجازات ونجاحات في مسيرتها التنموية الطموحة باعتبارها البلد الأسرع نموًا في مجموعة العشرين، وباعتبار سموه قائدًا ذا رؤية على حد وصف محاور سموه المذيع المخضرم وكبير المراسلين السياسيين “بريت باير”. المقابلة جزء من برنامج خاص مدته “يومان” بثته القناة هذا الأسبوع حول التحول في المملكة العربية السعودية. ما ذكره سموه في نحو ثلاثين دقيقة في ذلك الحديث المهم يعطي المتلقي فكرة واضحة وشاملة عن المملكة العربية السعودية الجديدة التي أصبحت رقمًا صعبًا على الخريطة الدولية، والتي وصفها “باير” بأنها من الناحية السياسية، تُعتبر من أهم الأماكن على وجه الأرض، “باعتبارها مركزًا ثقافيًا للعرب والمسلمين، ونظرًا لموقعها الاستراتيجي المحوري”، إلى جانب أن اللقاء أظهر سموه للعالم كقائد فذ واثق من نفسه، يتمتع بقدر كبير من الذكاء وبُعد النظر وسرعة البديهة، وإجادة تامة في التخاطب بطلاقة بلغة إنجليزية سليمة.
اللقاء الذي اعتبره “باير” “لحظات تاريخية” تضمن العديد من الموضوعات التي تتعلق بالمملكة، واقعها السياسي، وأهدافها، ورؤيتها، وعلاقاتها مع الولايات المتحدة، والصين، وروسيا وأوكرانيا، وإيران، والحوثيين، واليمن، وموضوع التطبيع مع إسرائيل، والتحول السعودي الكبير نحو الاستثمار في السياحة والرياضة والثقافة، وتمكين المرأة وتغير دورها في المجتمع تغيرًا كبيرًا. ومن الحقائق التي كانت غائبة، وأصبحت الآن حاضرة، ما ذكره سموه من وجود العديد من الفرص في المملكة في الماضي التي لم يتم استغلالها، ويجري الآن اقتناصها “للمضي قدمًا نحو سعودية أفضل”. وقد بدأت ملامح تلك المرحلة تتضح أكثر بعد أن أصبحت المملكة تحتل المرتبة 15 في الناتج المحلي في مجموعة العشرين. ومن المهم التوقف عند مشروع الممر الذي سيربط الهند بأوروبا عبر دول الخليج، والذي انتقده البعض، لكن ما ذكره سموه حول استفادة معظم دول المنطقة من المشروع أكد على جدواه وأهميته الاقتصادية والتجارية للجميع.
ولعل أهم ما ورد في اللقاء سؤال باير لسموه عن التطبيع، وما لفت النظر صراحة سموه وواقعيته في الرد على هذا السؤال، بدءًا من نفيه تعليق المفاوضات، ثم إعلانه بأن التطبيع مشروط بعدة شروط أوضحها سموه بقوله: “بالنسبة لنا، القضية الفلسطينية مهمة للغاية. نحن بحاجة إلى حل هذا الجزء”، وقوله إنه يمكن التوصل إلى التطبيع “لو حققنا انفراجة في التوصل إلى اتفاق يمنح الفلسطينيين احتياجاتهم ويجعل المنطقة هادئة”، وقوله أيضًا ضرورة التوصل إلى اتفاق “يلبي احتياجات الفلسطينيين ويحقق للفلسطينيين احتياجاتهم”.
لكن أهم ما لفت نظر المراقبين قول سموه بأنه إذا نجحت إدارة بايدن في مسعاها في التطبيع فستكون تلك “أكبر صفقة سياسية منذ الحرب الباردة”، وهي إشارة إلى أنها ستكون أهم من “كامب دافيد”، فإسرائيل تعتبر أن لا قيمة لأي تطبيع مع العرب بدون السعودية، إلى جانب أن تحقيق هذه الغاية سيدعم حكومة نتنياهو وسيرجح كفة بايدن في ولاية رئاسية ثانية، وهو ما يفسر الضغوط الأمريكية على نتنياهو في زيارته الحالية للولايات المتحدة. وتجدر الإشارة هنا إلى أن صنع السلام مع طرف يميني متشدد أضمن من صنع السلام مع طرف معتدل، لأنه لو تحقق السلام مع طرف معتدل سيأتي طرف متشدد ليجهضه، وهو ما يفسر تحقيق معاهدة السلام بين السادات وبيجن، الشخصية الإسرائيلية الأكثر تطرفًا في إسرائيل في ذلك الوقت. ويتضح في ضوء تصريحات سموه أن لديه وجهة نظر أكثر عمقًا ورحابة بالنسبة للعديد من الأمور، فهو يرى -على سبيل المثال- أنك لا تحتاج إلى سلاح نووي، لأنه لا يمكنك استخدامه، وإن استخدام أي دولة للأسلحة النووية يعني أنها في حالة حرب مع بقية العالم، ثم تأكيده على أن إيران لو حصلت على سلاح نووي “سيتوجب علينا الحصول على واحد لأسباب أمنية”. ولابد وأن استرعى انتباه المراقب إلى أن تأكيد سموه على بعض الحقائق أزال الغشاوة عن أمور كانت تعتبر بالنسبة للبعض ضبابية كتأكيده على أن دول “بريكس” ليست ضد الولايات المتحدة الأمريكية. تطرق سموه في حديثه مع باير إلى الإصلاحات السياسية والاجتماعية السريعة التي تشهدها المملكة، وإلى ما يبذله سموه من جهود للنهوض بالرياضة والسياحة والثقافة يؤكد على أن المملكة تمضي سراعًا في تحقيق رؤية 2030 وفي التحول إلى دولة كبرى متقدمة لها دورها المميز ومكانتها المرموقة على الخريطة الدولية، كما أن “المقابلة” نقلت صورة مشرفة للقيادة السعودية الملهمة والوجه الحضاري المضيء لبلاد الحرمين الشريفين.