في حسابات الحياة لا قيمة للسنين إلا بما حملته السنون من حياة.. لا قيمة للأرقام، لا قيمة للإحصاء، لا قيمة للتكرار، لا قيمة للنسبة والتناسب في دفتر الحياة. القيمة كل القيمة لجماليات تلك الحياة، لروعة تلك الأيام، للسعادة التي غلّفت قلبك وروحك في تلك الليالي والأيام فحسب.
ولأن العلاقات الإنسانية في مجتمعاتنا البشرية تحسب غالبًا بالأعداد؛ فإن الأمر يحتاج لمزيد من الفحص والتدقيق. الصداقة المتينة في أعرافنا هي تلك التي امتدت لسنين طويلة، والتي عاصرت أحداثًا متعددة خلال أيام ممتدة.. هنا لا يتحدث الناس عادة عن طبيعة تلك الصداقة.. عن صدق المواقف فيها وإن قلت.. عن مدى العناية والاهتمام والأخوة الحقيقية.. كل الأحاديث رياضية.. حسابية.. إحصائية.. ربما كانت هذه الحقيقة إحدى خطيئات وآثام إنسان اليوم.
في أستراليا عام ٢٠٠٣م تعرفت على صديق أسترالي كان مديرًا للسكن الثاني الذي عشت فيه فترة الابتعاث بعد أن نشبت حرب باردة بيني وبين مكتب العقار المسؤول عن السكن الأول. فكرة الانتقال من سكن إلى آخر في أستراليا آنذاك لم تكن سهلة؛ لأن الانتقال يحتاج لدفع مبلغ تأمين مقدم، يحتاج لشهادة تزكية من المؤجِر السابق، يحتاج لنفس طويل ومداهنة إجبارية وإلا فإن الأمر سيصبح صعبًا للغاية.
وبعد طول بحث عن شقة جديدة، كان الجميع يطلب فيها تزكية من المؤجر السابق ومالًا مقدمًا لإيجار أسبوعين وتأمينًا مقدمًا لأي تلفيات تلحق بالعقار مستقبلًا، كنت حينها على موعد مع صديق من السماء.
دلفت إلى داخل مجمع سكني ووجدت رجلًا في أواخر الخمسين من عمره برفقة كلبته داخل مكتب إدارة المجمع، بادرته بالتحية فلم يهش ولم يبش، وأشار إلي بالجلوس فقد كان منهمكًا في مراجعة أوراق بين يديه.. بعدها بقليل، وضع صاحبنا الأوراق جانبًا وأرسل ابتسامة مجاملة ثم قال: اسمي كريس بيلينق، كيف يمكن لي أن أخدمك؟ بادلته الابتسامة بأحسن منها وعرفته على نفسي ثم تلوت عليه الوضع الذي أمر به بمنتهى الوضوح والصراحة.. قال لي كلمة مازالت تتردد في بالي إلى يومنا هذا.. قال: ألا يعلم هؤلاء في مكاتب العقار أنكم طلاب وأن لديكم من التوتر ما يكفي؟ كانت تلك العبارة اللطيفة من كريس أول منازل الصداقة.
ظهرت دلائل الصداقة الصادقة تباعًا: وافق كريس على تأجير الشقة الجميلة لي، منحني مرورًا لصالة الألعاب الرياضية والمسبح الخاص بالمجمع مجانًا، منحني استثناءً من المقدم المالي، وتأجيلًا للتأمين إلى أن أطيق ذلك، وخيرني في دفع الإيجار بشكل أسبوعي أو شهري، كانت مجموعة من المنح والعطايا ذكرتني فورًا بما كان يخلعة الخلفاء على الشعراء مع الفارق أن الشعراء كانوا يثنون عليهم؛ فينالون مكافآتهم أما أنا فقد نلت مكافأة دونما فضل قدمته.
توثقت أواصر العلاقة بين أسرتي وأسرة السيد كريس بيلنق؛ فكنا نتبادل الهدايا في المناسبات، ونتبادل الزيارات ممزوجة بطابع ثقافي في المأكل والملبس والأحاديث، أصبح السيد بيلينق جزءًا من سعادتي اليومية فكنا نذهب سويًا للسوق، ونجتمع في المساء، ونزور المقاهي والسينما، وعندما أنهيت دراسة الماجستير قدمت لي الجامعة ٤ بطاقات ضيافة كان لأسرتي منها ثلاثًا والرابعة لم تخطئ طريقها للصديق الصادق كريس.
ونحن نغادر أستراليا – وعلى غير المتعارف عليه هناك – عرض علينا كريس إيصالنا إلى المطار وأصر على ذلك فوافقت شريطة أن أتحمل أجرة الوقود فوافق بيد أنه لم يأخذ دولارًا أستراليًا واحدًا بعد وصولنا.. كيف للرجل بهذا القدر أن يأخذ القليل بعد أن منح الكثير؟
هكذا خُتِمت قصة صداقة حقيقية قوامها عام واحد فقط مازال مصدرًا لسعادتي وسعادة أسرتي بعد ٢٠ عامًا من انتهائه، ذهب كريس الجسد من أمام أعيننا ولم يذهب حسن صنيعه من جوارحنا، ذهبت قصص صداقات وهمية امتدت لعشرين عامًا من وجداني، ولم تذهب صداقة حقيقية عمرها عام، صدقت نبوءة الطبيب الأديب أحمد خالد توفيق حينما قال: الغائبون حينما تدعوهم اللحظة يجب أن يغيبوا للأبد.