عام

بين السرد الروائي والتصوير السينمائي

مقالة نقدية

مقدمة
رغم أن السينما وسيط سمعي-بصرى، لکن الصوت يصاحب الأحداث ويؤکد المعانى التي تجسدها الصورة . ولذلك کان من أهم خصائص السينما اعتمادها على لغة الصورة ومهما تكن طبيعة معضلات التحويل من رواية إلى فيلم إلا أن الجدل لا يزال اليوم قائما حول مدى ما تنطوي عليه من إبداع، وعملية النقل المبدعة، أو تحويل الرواية هي التي تقوم بتفهم الأفكار والجو الدرامي العام، ونقلها من عالم الكلمة إلى عالم الصورة (السيناريو بين التآمر على واقع الرواية والتعبير عنه، منيرة مبروكي، مجلة آفاق سينمائية، جامعة وهران، 2016، ص 126)
ومن خلال هذه القراءة النقدية لمقالة الكاتبة جوليا برانش Julia Branche نستبين العلاقة بين الأدب والسينما .

محاور المقالة:
ناقشت المقالة المحاور التالية:

المحور الأول:
علاقة الأدب بالسينما.

استهل المقال بالحديث عن علاقة الكتاب-بمناسبة يوم الكتاب- بالأدب وعلاقة الأدب بالسينما ،والحقيقة أن السينما والأدب في حالة من الاندماج التام يستعصي معها مناقشة أحدهما دون التعرض للآخر،فكما أن الرواية مهمتها إيضاح الحوار والشخصية والموقف والحدث، فالسينما تضيف الألوان والألحان والإيقاعات التي تضفي على السرد المكتوب المذاق والرائحة، فالرواية متوالية (لغوية ) تنطوي على حكاية، بينما الفيلم متوالية (صورية )
وعلى ذلك لا يحق للناقد مناقشة الفيلم بمعزل عن روايته الأصلية ،فإن كانت الرواية التجسيد المعنوي للحدث فإن الفيلم التجسيد المادي.
إذن فالعلاقة بين الأدب والسينما “علاقة تبادلية، فكلاهما يلهم الآخر”(ارتحال النص السردي من الرواية إلى السينما ،زينب ياقوت)
،فالأولى ترسم فكرتها بالأحرف وتترجمها الثانية بلغة بصرية ملفتة للناظر، مشكلة لغة مشتركة بين النص الأدبي والسينمائي.
وتشير الدكتورة كوثر حبارة إلى أن “الفضل في استمرارية السينما لغاية اليوم يرجع الى مساهمة الرواية، ولذلك لم تتوقف الرواية في زمن من الازمنة عن امداد السينما وحتى يومنا الحالي بالقصص والافكار الجديدة”.(الرواية العربية والسينما، الدكتورة كوثر جبارة، الدار العالي، معرض البصرة الدولي للكتاب، 2022، العراق)

المحور الثاني:
مدى اعتماد الفيلم على الروية.

فتقول الكاتبة” ومع ذلك، فإن الأعمال الفنية التي تظهر على الشاشة ليست معتمدة كليا على الأعمال الأدبية المكتوبة، إذ تبتكر بعض الأفلام أسلوبها الأدبي/الفني الخاص من خلال التركيز على حياة مؤلف مشهور أو من خلال اعتماد خط سينمائي معتمد على اتجاهات أو حوارات أو تعديلات للوصول إلى الهدف الغني الأدبي أو الشعري المنشود”
وليس من الخطأ أن يقوم الفنان بنقد العمل الفني أثناء عملية الخلق، حتى يختار ما يتلاءم مع طبيعة عمله، ويرفض ما يتنافى معها، فلا نرى-كنقاد- بأسًا فيما يحدث من فروقات بين الرواية والفيلم المأخوذ عنها، لأن العمل الأدبي المكتوب يعبر عن وجهة نظر كاتبه و “متلقي الفيلم يتوقع أن يرى ما قرأه في الرواية غير أن العمل السينمائي يقوم على اقتباس العمل الروائي لا تجسيده “(الصورة من النص الروائي إلى الفيلم السينمائي،دراسة مقارنة في التجربة الجزائرية، أطروحة لنيل درجة الدكتوراه، محمد الأمين بن ربيع، كلية اللغة والأدب العربي والفنون،2023،الجزائر ،ص100)
ويحق لكل قارئ- وإن كان هذا القارئ هو مخرج العمل السينمائي أو كاتب السيناريو- أن يضيف ما يخدم الهدف الذي قرأه من خلال الرواية بإضافات تبرزه وتوضحه للمتلقي وتجعله سهل المتناول.
فالمضمون ملك للجميع لكن متى انصهر في بوتقة الشكل الفني فإنه يصبح ملكا للعمل الأدبي وحده ولا نقول ملكا للأديب الذي ابتدعه، ويمكن اعتبار تلك الإضافات قراءة للرواية من زاوية المخرج أو الكاتب ،فكما أنه لا يوجد في الأدب قراءة جيدة وأخرى سيئة فإنه لا توجد إضافات جيدة وأخرى سيئة، لأنها في مضمون الأمر قراءة، ولا توجد أحكام مسبقة وسابقة التجهيز لزوم الاستعمال الفوري، ونظرا لكل هذا التخبط في مجال ايجاد مفهوم جامع مانع للمضمون الفكري في العمل الادبي، خصص الناقد ايريك بنتلي في كتابه »حياة الدراما« فصلا كاملا عن هذه القضية، أوضح فيه أن المضمون الفكري في الدراما من أكثر المفاهيم اضطرابا بالأفكار الجاهزة والأهواء المسبقة يحرص بعض الأدباء على المحافظة على نصوصهم الموجهه للإنتاج السينمائي شكلا ومضمونا ويرى غالبيتهم أن أعمالهم قد زيفت حينما تحولت إلى لغة السينما في حين يفضل بعضهم أن ينأى بنصه عن الانتاج السينمائي حفاظا على تلك الصورة المحفورة في ذهن قارئ الرواية، ويعد الروائي الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز أشهر الروائيين الذين رفضوا تحويل أعمالهم إلى فيلم سينمائي، خوفا على تزييفها وتحوير مضمونها، حين أعلن رفضه القاطع تحويل روايته “مائة عام من العزلة” إلى فيلم .

المحور الثالث:
تصنيف الأعمال الأدبية السينمائية من خلال أربعة أفلام :

1-النوع الأول:
دمج الأسلوب الأدبي بالعمل السينمائي(فيلم جول وجيم (١٩٦٢) للمخرج فرانسوا نموذجا) :
في هذا الفيلم يضرب ” فرنسوا تروفو” حجرين في خِلقة عصفورٍ واحد ، الحجر الأول كان بمثابة مُحاكاة مِخبرية وطموحات ذاتية تمكنت من جعل شخصية ” كاثرين ” مُزدوجة التجسيد والتركيب ، فذلك كله كان في سبيل أن تُعبر بأسلوبٍ أو بآخر عن عن الحالة الذهنية للمرأة عند تبادل الأدوار بينها وبين الرجل على أرض الواقع ، في ظل رغباتها المكبوحة في أن تمتلك حرية التنقل بين رجلين يحملون اسمها وليس العكس ، وتملك عاطفتها دون منحها بسهولة كما هو السائد في فهمنا المُبسَط عنها.
تقول الكاتبة “يتناسب أسلوب الموجة الفرنسية الجديدة لـفيلم جول وجيم السينمائي مع الأسلوب الأدبي المستخدم من قبل الكاتب هنري بيير روشيه في الرواية الأصلية؛ فهو حاد، تغلب عليه الجمل القصيرة، متأرجح ديناميكيًا، ويعبر عن الحرية الشخصية في الحب ونمط الحياة الفردي” وهذا النوع من العمل السينمائي يحافظ على مضمون الرواية ولا يربكها بكثرة الاختزالات مع أنه قد لا يعني تحويل السرد الروائي إلى سرد سينمائي أن يلتزم المخرج بما جاء في الرواية التزاما أمينا، إذ تفرض الرؤية الإخراجية سلطانها على السرد فيؤدي ذلك إلى التحويل والتغيير.

النوع الثاني:
اختلاف الفيلم عن الرواية( غاتسبي العظيم The Great Gatsby (٢٠١٣) لـ باز لورمان نموذجا) :
تقول الكاتبة “من الأفضل الاحتفاظ ببعض الكتب غير القابلة للتكييف السينمائي بعيدًا عن المستثمرين، لأننا نحبها لدرجة عدم رغبتنا برؤية عمل سينمائي لها” تقول الكاتبة ذلك لما طرأ من تغييرات على رواية”غاتسبي” بعد تحوليها لعمل سينمائي مع أنه قد يحدث أن يستغني النص السينمائي عن كثير من الأحداث الجوهرية وبعض النهايات; بسبب ضرورات القالب السينمائي ومنها الضرورة التزامنية للحدث وتجنب الإسهاب السردي، إضافة لذرائع المؤثرات الخارجية والبيئية والسياسية والاجتماعية،ولا يعني تحويل السرد الروائي إلى سرد سينمائي أن يلتزم المخرج بما جاء في الرواية التزاما أمينا، إذ تفرض الرؤية الإخراجية سلطانها على السرد فيؤدي ذلك إلى التحويل والتغيير.
وغاتسبي في الرواية يمثل الاثرياء من ذوي السلطة والنفوذ الذي يصلون لمقاليد الأمور بطرق غامضة، والدكتورة كوثر جبارة ترى أن “أي رواية ممكن أن تتحول إلى فيلم، لكن هناك روايات هي أصلح لأن تتحول الى أفلام”
ويمثل غاتسبي أيضا دور الساعين وراء شهواتهم ليكتشفوا أنها سراب في النهاية المطاف ولقد أثبت غاتسبي للناظرين دوما نحو الخلف، الذين لم يستطيعوا تخطي الخسائر العاطفية او المادية القديمة أن الماضي لا يعود، واللاهثين خلفه يرهقون أنفسهم عبثا.
إن تحويل الرواية إلى فيلم يختلف في الشكل التعبيري للسينما وهو الصورة، لأنها هي التي تضع أمام أبصارنا المكان والزمان والشخصية مجسدة ضمن إطار ثابت ،وبالتالي يلغي الصورة المتخيلة التي نشأت مع القراءة وتحل محلها الصورة السينمائية كما أرادها المخرج ،وهنا تحل اللغة السينمائية التي تتكون من حركات الكاميرا وزوايا التصوير، والإضاءة ،والموسيقى، محل اللغة الأدبية
وما حدث في فيلم غاتسبي يشبه ما حدث مع فيلم “القيامة الآن ” للمخرج الأمريكي فرانسيس فورد الذي اقتبس من رواية “قلب الظلمات” للروائي جوزيف كونراد حيث حصلت اختلافات كثيرة بين الرواية والفيلم المقتبس منها.

النوع الثالث:
حياة المؤلف موضوعا للعمل الفني(النجم الساطع Bright Star (٢٠٠٩) لجين كامبيون نموذجا) : ويمكن تصنيفه ضمن مسمى السيروائي: حيث يسرد الروائي من خلاله سيرته الذاتية ويعرضها في إطار فني مضيفا لها بعض ما قد يلزم السرد السينمائي ،فتكون حياة المؤلف موضوع الاقتباس وليس بالضرورة أن يكون كل السرد يمثله.
وهذا حدث في كثير من الأفلام مثل رواية “فتى الشعبة” للجزائري عزوز بقاق التي حولت بأمانة ووفاء إلى فيلم فرنسي ،مشى فيها المخرج على خطى الكاتب، فلم يغير ولم يبدل.
ونحن “نعلم مسبقا أن الأدب بالنتيجة ليس مطابقا بالكامل للحياة وعليه يكفي أن يكون المخرج أمينا في نقل روح العمل الأدبي مستعينا بكل وسائل المساعدة في السرد السينمائي”(علاقة السينما السورية بالأدب، لمى طيارة، ص50)

النوع الرابع:
الواقع الاجتماعي موضوعا للعمل الفني.
( ميناء الظل Port of Shadow (١٩٣٨) للمخرج مارسيل كارنيه نموذجا) .
كان هذا الفيلم مثالا رائعا للواقعية الشعرية وحياة الشعراء ،فقد يظن البعض أن للشعراء حياة مختلفة بينما يثبت فيلم ميناء الظل أن لهم الروتين اليومي المعتاد ،ولكن الذي يميز ذلك الروتين ويجعله جديرا بالاحتفاء هو نظرة الشاعر للحياة من حوله وتفسيراته لها وتعامله معها، وكيف أنه يجعل من كل صغير شيئا جديرا بالكتابة والتأمل.
اتخذت بعض الافلام منها فيلم ميناء الظل، من الواقع المجتمعي موضوعا لها في السينما ،واتخذت من قضايا المجتمع مادة لنصوصها، ومن تلك القضايا الشاعر ذاته.، وبالتأكيد كما هو معروف أن ليس بالضرورة أن تكون السينما نقلا مطابقا للوقع لكنه تعكس شيئا منه ،بأدواتها المتاحة ،وبأسلوب ترى أنه أكثر جذبا للمشاهد.
وعلى هذا “فقد أصبحت السينما أداة مؤثرة في إحداث التغيير الاجتماعي والثقافي وهي من الوسائل التعليمية الفعالة التي تهدف إلى الارتقاء بالمجتمع” (أشرف شتيوي، السينما بين الصناعة والثقافة، دراسة نقدية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهر، 2008، ص 38-39)

النوع الخامس:
الروتين اليومي مصدر العمل الفني.
( باترسون Paterson (٢٠١٦) للمخرج جيم جارموش نموذجا) :
جعل فيلم باترسون الروتين والاعتياد شيئا ذا فائدة وأداة للمتعة، مع أن الأبطال في الفيلم لا يقومون بشيء جديد ،وإنمت هو الشيء المعروف الذي يحصل عادة مع كل شخص، لكن هنا تظهر كمية التمكن والإبداع ،عندما يكون هذا الروتين المعتاد مادة سينمائية تجذب المشاهدات عبر العالم.

المحور الخامس:
مشكلة التكييف
وفي ضوء حديثها عن مسألة التكييف تقول نقلا “وعندما يقوم المخرج بتحويل رؤيته الخاصة لعمل أدبي إلى فيلم، فإنه لن يتطابق تمامًا مع رؤيتنا. وهنا تأتي خيبة الأمل… أو المفاجأة!”
بينما ليس شرطا أن تكون هناك خيبة في تعارض رؤية المخرج مع رؤية المتلقي المطلع على العمل سابقا،
فشكسبير -على سبيل المثال- اقتبس مضمون مسرحياته من الأساطير والقصص التاريخية المعروفة والمقروءة مسبقا فهي لا تعد شيئا جديدا لكن الجديد فيها قراءته الخاصة لتلك الأساطير والقصص الذي جعله يبرز لنا معاني جديدة وأحاسيس جميلة ،وكأن المتذوق يمر بها للمرة الأولى، فلكل رؤية مذاقها الخاص الذي يجعل الأحاسيس تنتشي رغم الاختلافات وفشل العمل الفني ليس بسبب الاختلافات بينه ولروايته المقتبس منها، وإنما لانعدام روح الاتساق والإحكام في العمل.
يقول فيليب سيدني “ولذلك يوضح سيدني اننا نكتسب معرفة بالانفعالات البشرية عندما تتجسد امامنا بصورة عينية”
.

المحور السادس:
ما سبب نجاح الأفلام المقتبسة من الكتب أو فشلها؟!
تقول الكاتبة:
“قد يكون من الصعب أن تحصي عدد الأفلام العظيمة أو الأفلام السيئة المقتبسة من كتب”
ونجاح وفشل هذه الأعمال لا يمكن إرجاعها إلى الرواية ولا إلى السينما لأن هناك روايات حققت نجاحا كبيرا بين القراء ولم تحقق النجاح على الصعيد السينمائي، وهناك روايات لم تحقق النجاح المطلوب لكنها أصبحت أفلاما ناجحة ،لأن عملية تحويل الرواية إلى فيلم تتدخل فيها عناصر عدة منها المخرج والمصورين والممثلين والإمكانات المادية والمالية المخصصة لذلك ،كما أن جمهور هذين الفنين يختلف، فجمهور السينما ليس هو جمهور الرواية، فجمهور الرواية جمهور قارئ، بينما جمهور السينما من مختلف المستويات.

الخاتمة

-لم تزل السينما في اشتباك مع الرواية، ولم يزل السينمائيون يرون في الرواية ذلك المصدر الذي لا غنى عنه لأعمالهم حتى وإن كانت هذه الأعمال اقتباسا ذكيا لا يضمّن من الرواية سوى روحها.

-الاقتباس السينمائي نوعان، اقتباس مطابق اقتباس مخالف، والفيلم الذي اعتمد مخرجه على اقتباس مطابق لا يعني أنه ألغى كل إبداع خارج الرواية، والذي اعتمد الاقتباس المخالف لا يعني إلغاء هوية الرواية من عمله السينمائي.

-من خصائص السينما أيضاً أنها ترتبط بواقع الأفراد وأيضاً تشجع الأفراد على التفکير في أبعاد فکرية جديدة.

-إن تحويل الرواية إلى فيلم يعد فنّا يجب أن يكون القائمون عليه على مستوى عال من الاتقان والمهارة والخبرة.

المصادر والمراجع

-ارتحال النص السردي من الرواية إلى السينما، زينب ياقوت، جامعة الجزائر، كلية علوم الإعلام والاتصال، 2022.

– الأدب والسينما العربية، أحمد بجاوي، علاقة السينما السورية بالأدب، لمى طيارة، منشورات شهاب، 2016.

الرواية العربية والسينما، الدكتورة كوثر جبارة، الدار العالي، معرض البصرة الدولي للكتاب، العراق، 2022.

–السيناريو بين التآمر على واقع الرواية والتعبير عنه، منيرة مبروكي، مجلة آفاق سينمائية، جامعة وهران، 2016.

-السينما بين الصناعة والثقافة، أشرف شتيوي، دراسة نقدية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهر، 2008.

-الصورة من النص الروائي إلى الفيلم السينمائي،دراسة مقارنة في التجربة الجزائرية، أطروحة لنيل درجة الدكتوراه، محمد الأمين بن ربيع، كلية اللغة والأدب العربي والفنون،،الجزائر ،2023.

مريم إبراهيم الحربي

ماجستير علم نفس إرشادي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى