المقالات

في الليلة الظلماء يفتقد البدر

نعم في الليلة الظلماء يفتقد البدر. هكذا هي الحياة. تمضي بنا نسير في ركابها تأسرنا.. تطلقنا.. تكابدنا لا تتوقف ونحن معها إلى حيث رحْلِ دينامكيتها. فهل لا حول لنا ولا قوة أم نحن نحب من يأسرنا. وهل الأسر ذاته ما نتلذذ به. أو هو الأسر كمدخل أو علة نتعلل بها بأننا مكتوفو الأيدي مسلوبو الإرادة، وما نقوم به وبالذات من تصرفات غير محسوبة سببها أننا مكبلون بأغلال الظروف وحيثيات الحياة. فليس لنا إلا ما حصل. ونحن بريئون من المسؤولية كبراءة الذئب من دم يوسف أو كما عاد نزار وبراءة الأطفال في عينيه. وفي لجة الحياة والادعاء بعدم المسؤولية وبالذات عندما يحل خطب أو تطل الأحداث الهامة برأسها فينسل من هو وفي الهيجاء ما جربت نفسي- ولكن في الهزيمة كالغزال. ويبقى لمصارعة الأحداث من هولها فيضرب بيده على صدره ويقول كما قال الشاعر سحيم بن وثيل:
أنا ابن جلاء وطلاع الثنايا.. متى أضع العمامة تعرفون
وأن مكاننا من حميري.. مكان الليث من وسط العرين. (وابن جلا كناية أنه رجل مشهور بجلو الأمور) ولكن إذا لم يظهر ابن جلا ولا عنترة ولا المهلهل. ولا أي من الفرسان. ففي هذا الوقت. يحين وقت الاستشهاد بما قال أبو فراس الحمداني.. سَيَذكُرُني قَومي إِذا جَدَّ جِدُّهُم
وَفي اللَيلَةِ الظَلماءِ يُفتَقَدُ البَدرُ

فَإِن عِشتُ فَالطَعنُ الَّذي يَعرِفونَهُ
وَتِلكَ القَنا وَالبيضُ وَالضُمَّرُ الشُقرُ

وَإِن مُتُّ فَالإِنسانُ لابُدَّ مَيِّتٌ
وَإِن طالَتِ الأَيّامُ وَاِنفَسَحَ العُمرُ

وَلَو سَدَّ غَيري ما سَدَدتُ اِكتَفوا بِهِ
وَما كانَ يَغلو التِبرُ لَو نَفَقَ الصُفرُ

تَهونُ عَلَينا في المَعالي نُفوسُنا
وَمَن خَطَبَ الحَسناءَ لَم يُغلِها المَهرُ

هذا ما قاله أبو فراس الحمداني الفارس المغوار والشاعر الذي لا يشق له غبار، والذي أكد بوحه الشاعر المتنبي في قصيدته التي امتدح فيها أبي فراس حين قال:
لكل امرىءٍ مِنْ دَهْرِهِ ما تَعَوّدَا
وعادَةُ سيفِ الدّوْلةِ الطعنُ في العدى

وَإنْ يُكذِبَ الإرْجافَ عنهُ بضِدّهِ
وَيُمْسِي بمَا تَنوي أعاديهِ أسْعَدَا

ومُستَكْبِرٍ لم يَعرِفِ الله ساعَةً
رَأى سَيْفَهُ في كَفّهِ فتَشَهّدَا

هُوَ البَحْرُ غُصْ فيهِ إذا كانَ ساكناً
على الدُّرّ وَاحذَرْهُ إذا كان مُزْبِدَا

فإنّي رَأيتُ البحرَ يَعثُرُ بالفتى
وَهذا الذي يأتي الفتى مُتَعَمِّدَا

رَأيتُكَ محْضَ الحِلْمِ في محْضِ قُدرَةٍ
وَلوْ شئتَ كانَ الحِلمُ منكَ المُهنّدَا

وَما قَتَلَ الأحرارَ كالعَفوِ عَنهُمُ
وَمَنْ لكَ بالحُرّ الذي يحفَظُ اليَدَا

إذا أنتَ أكْرَمتَ الكَريمَ مَلَكْتَهُ
وَإنْ أنْتَ أكْرَمتَ اللّئيمَ تَمَرّدَا.

ومن الطريف ذكر الموقف الذي قال فيه المتنبي هذه القصيدة أمام سيف الدولة أبي فراس؛ فقد دخل عليه وكان ممددًا على فراشه وقال لكل امرئ من دهره ما تعودا. فأشار له أبو فراس بأن يتوقف ثم استقام في جلسته وقال أعد ما قلت فقال المتنبي القصيدة كاملة وذهب بعد ما كافأه سيف الدولة. فقيل لأبي فراس لماذا طلبته أن يتوقف. قال خشيت أن يكمل فيقول ..وعادته لهذا الوقت أن يتمددا. (فطنة شاعر وقائد)

بينما يقول عنترة بن شداد في ذلك السياق.
دهتني صروف الدهر وانتشب الغدر
 ومن ذا الذي في الناس يصفو له الدهر
وكم طرقتني نكبة بعد نكبة
 ففجرتها عني وما مسني ضر
سيذكرني قومي اذا الخيل اقبلت
وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر

محوت بذكري في الورى ذكر من مضى
وسدت فلا زيد يقال ولا عمرو. هل هي الحروب والخطوب التي نحتاج فيها البدر في الليلة الظلماء فقط. ألا نحتاج البدر في كل موقف مهما كان في أعيننا بسيطًا. لماذا في الكثير من الأحيان نجد أنفسنا نحتاج هذا البدر مع أنه ساكن في حنايانا ولكن لا نكتشفه. هل هذا عجز في ثقافتنا سواء كانت من البيت أو المدرسة أو المجتمع.
إن كل منا يملك بدرًا في دواخله. فقط نحتاج أن نثق في قدراتنا. فأحداث الحياة لا تنفك أن تقع وليس هناك وقت لنبحث فيه عن الفارس المغوار أو الجهبذ ذا العبقرية والأفكار ليحل مشاكلنا فكل له مشاكله وهناته ولو كان ذلك الذي أسميناه بدرًا سواء أكان أيًا من تلكمو العباقرة والحكماء والفرسان. ولولا ذلك لما سقط زيد أو عمرو أو ابن جلاء وبقية الفرسان والقادة على مر الزمان. إننا في الكثير من المواقف نستطيع أن نسيطر عليها، ونجد لها حلولًا ذاتية. وفي نفس الوقت. لا يخلو الأمر أن نستعين بمن نعتقد أن خبراته أفضل، ولكن في أضيق نطاق وفي الوقت الذي نحتاج فيه الخبرة والقدوة.. نفقد الآباء والأمهات وهم البدر الذي كان يُنيرون لنا الطرقات مهما اشتد غسقها. وتمضي الحياة. قد نكون نلنا قبسًا من ذلك البدر أو مع الأسف معظم الأحيان لا نحفل بالأبدار وهم في الوجود، ولا نفتقدهم إلا عند ذروة الحاجة والشدة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى