لن نختلف – كما أعتقد – حول الهدف الكبير للجامعات عالميًا، وهو تزويد الفكر البشري بما يصلح حاله في مسيرته في هذه الحياة، وحينما أتحدث عن الحياة فكوكب الأرض ليس سوى نقطة في هذا الكون الفسيح الذي يوجد به القليل من الازدحام والكثير من الفراغ.
ولأن الجامعات تتغذّى وتعيش على خلاصة الفكر البشري النقي؛ لتؤدي رسالتها وتصل إلى هدفها الأسمى optimal objective؛ فإن البحث عن تلك العقول بحرفية متناهية هو الأداة التي توصل الجامعة إلى مبتغاها النبيل. لا توجد طريقة أخرى يمكن من خلالها أن تصل هذه المحاضن الفكرية إلى ما تريد في ظل غياب وقودها الأول والأخير، وهو الفكر النيَّر.
إذا اتفقنا على هذا فإننا سنستجوب كل قرار يعيق الجامعة من تحقيق هذا الحلم الكبير وهو استقطاب العقول. دعونا نقترب أكثر إلى المكاشفة لنسأل: ما الذي يجعل استقطاب العقول المبدعة لتعمل في الجامعات محاصرًا ببعض الأنظمة التي يمكن التغلب عليها بأبسط مما نتخيل؟ لماذا تحد بعض الأنظمة في الموارد البشرية بالجامعات اعتمادًا على بعض أنظمة الخدمة المدنية من انتقال العقول المفكرة والملهِمة إلى الجامعات تحت ذريعة اختلاف المسمى الوظيفي؟ عدم توفر الشاغر؟ تجاوز العمر المحدد للدرجة العلمية؟ غياب المسابقة الوظيفية وغيرها؟
هل من المقبول مثلًا أن يتخرج زميلان من نفس الجامعة الأجنبية أو المحلية وبنفس التخصص وبذات الدرجة العلمية ليعمل أحدهم بالجامعة التي ابتعث منها بينما يحرم الآخر من الانتقال لها لوجوده بقطاع يختلف فيه المسمى الوظيفي عن المتاح بالجامعة، رغم تطابق التأهيل والجدارة والقدرة والإبداع؟ ألا يمكن تصنيف هذا على ما يمكن وصفه بـ”قيد المسميات” أو “سطوة الشكليات” ! هل من المقبول أن يسقط الهدف الكبير وهو العقل المبدع بالضربة القاضية أمام بنود نظامية من هذا النوع؟!
حسنًا، دعونا نستدرج بعض التجارب الدولية حول التعليم على النحو التالي: في مقاطعة كوينزلاند الأسترالية التي كنت أدرس بها كان التعليم العام يواجه مشكلة كبيرة جدًا في إيصال التعليم إلى المناطق البعيدة في الأحراش والغابات remote areas حينها كان الإغراء هو المحرك الكبير ماديًا ومعنويًا مع تعديل مرن للأنظمة جعل أساتذة جامعيين مؤهلين جيدًا ينتقلون للتدريس بتلك المناطق البعيدة. مثال آخر يقفز هنا من المملكة المتحدة والولايات المتحدة يتمثل في ظاهرة تمر على عدد لا يستهان به من الطلاب المبتعثين تبرز مرونة الأنظمة: أستاذ جامعي ينتقل لقطاع جامعي آخر أو تطوعي أو خاص، ومع ذلك يستمر في الإشراف على طالب الدكتوراة لحين انتهاء أطروحته. مثال ثانٍ: حول استدعاء أستاذ جامعي متقاعد أو مفكر مجتمعي لا علاقة له بالجامعة لمناقشة طالب ما في رسالة الدكتوراة. مثال ثالث: حول وجود أكاديمي بدرجة الماجستير يقوم بالإشراف على طالب دكتوراة تحت ظل مرونة وسلاسة وعقلانية الأنظمة.
أعتقد أننا بحاجة اليوم أكثر من أي وقت مضى لإعادة النظر في الأهداف الكبيرة للتعليم العالي وتخليصها من بعض قيود الأنظمة التي لم تخدم الفكر سابقًا ولن تخدمه مستقبلًا. نحن بحاجة لكسر هذه السلاسل المتشابكة intertwined chains من البيروقراطيات التي تعيق إرادة النمو التنموي. الوطن اليوم يفتش عن العقول الرائدة والأفكار المتمردة على النمطية ويحلم بتحقيقها بلا حدود؛ ولأن الأحلام لا تتحقق بالأماني فإن الأفعال الصلبة وأولها كسر جمود بعض الأنظمة الجامعية أصبح مطلبًا لنصل إلى ما نريد.