آراء متعددةالمقالات

«ساعة التذكار»!

اعترافٌ صادقٌ نزيه؛باحتلاله عرش البيان العربي في عصره!

يرى دارسو الأدب الحديث أنَّ فكرة ( إمارة الشعر )؛ظهرتْ جليَّةً إلى حيِّز الوجود بتنصيب الشاعر الفذ:أحمد شوقي أميراً على شعراء زمانه؛وفي هذا اللقب الفخم إشادة بعبقريته؛واعتراف بمنزلته ؛وإنجازاته الأدبية المتعددة؛ كالشعر المسرحي وغيره.
ومن الطبَعي أن يشهد هذا الحدث البِكْر في عالم الحياة الأدبية ؛تأييداً ورفضاً في آن واحد؛و(قديماً كان في النَّاس الحسد) على حدِّ تعبير الشاعر القديم.
ترامت الأصداء في أرجاء المعمورة؛ وانقسم أهل الفن من شعراء وغيرهم ؛إزاء هذا التقليد غير المسبوق إلى راضين وكارهين..
ونظرةٌ متأنيةٌ إلى تلك الحقبة الزمنية؛ تكشف لنا أنَّها كانت تموج بالشعراء الأفذاذ من مختلف أقطار الوطن العربي؛وتزخر بالقامات الأدبية؛ممن لايقلِّون عن شوقي مكانةً ولاشهرةً في تشييد صروح النهضة الأدبية؛على أسس متينة؛ومبادئ ثابتة من الجمال الإبداعي المؤتلق.
بيدَ أنَّ الاختيار وقع على شوقي دون غيره؛ليصبح بذلك أول شاعر عربي ينال تلك المرتبة الباذخة.
وأيَّا كانت الملابسات التي أحاطت بذلك التكريم النوعي ؛فقد أصبح شوقي رمزاً شعريا خالداً في دنيا الشعر العربي؛ إلى يوم النَّاس هذا ؛وإنَّ له من آيات الشعر الرصين؛ومعجزات البيان ؛مالاسبيل إلى إنكارها ؛أو الغضِّ من شأنها؛كنهج بُردته المشهورة؛وما إليها من معزوفاتٍ وتجليَّات لم يُسبق إليها.
وفي السطورالتالية سنلقي نظرة خاطفة على وقائع ذلك التنصيب التاريخي؛ننفذ بعد ذلك إلى مرثية ناجي الخالدة:
عام 1927 م على وجه التحديد ؛قرر الأدباء المصريون؛عقد احتفال رسمي برعاية الملك فؤاد ملك مصر آنذاك ؛
لمبايعة شوقي؛بإمارة الشعر.
وفيه أيضاً توافد العشرات من شعراء مصر ،والوطن العربي؛ يحملون معهم قصائد وجدانية عالية النبرة؛ تتضمن تأييدهم المطلق لجدارة شوقي واستحقاقه ؛وتهنئته في الوقت ذاته بهذا التتويج العظيم الذي لم ينله شاعر قبله؛على مرّ العصور.
فإذا كانت مكانة شوقي في قلوب الشعراء ،والجماهير العربية عامَّة على تلك المثابة من التقدير العالي ؛فلا غرابة أن تكون وفاته خطباً جليلاً جسيماً ؛وألماً فادحاً ؛أُصاب لغة البيان في مقتل؛أوكاد.
لقد كان شاعر الأطلال إبراهيم ناجي من أولئك الشعراء اللامعين في عصر شوقي؛آمن بتجربته الشعرية الخصبة؛ واستخلص منها ومن شخصية شوقي ملامح فنيَّة ؛وقيماً إنسانية ؛تدحض سلسلة المزاعم والأباطيل والحملات المستعرة التي احتشدتْ لتشويه صورته الأدبيةالراسخة في ضمير الشعر؛ودوره الحبوي الرائد في حركة النهضة الأدبية.
“ومن طلب عيباً وجده “؛كما يقول المثل العربي.
وهاهو الآن بعد مرور عام واحدٍ؛لم تجفّ فيه مدامع الحزن والأسى على وفاة شوقي ؛يُدعى إلى حفلة ذكراه؛
بالإسكندرية؛فيبادر بتلبية الدعوة ليصدح في سمع الزمان بهذه القصيدة المترعة بالشجن الذّاتي المرير؛ والإيماءات المتقدة لبعض جوانب شوقي الفنية؛ وما ترك رحيله من فراغ واسعٍ ؛وجراحاتٍ دامية؛ وغصص موَّارة؛ «يقذف فيها الدهرُ بالمنايا دفَّقًا»؛في جسدٍ «أمةٍ ظمأى إلى الأخيار».
___________________
«ساعة التذكار»!

شَجنٌ على شَجنٍ وحرقةُ نارِ
مَنْ مُسعدِي في ساعةِ التذكارِ؟!

قُمْ يا أميرُ أفِضْ عليَّ خواطرًا
وابعث خيالَك في النسيم الساري!

واطلع كعهدك في الحياةِ فراشةً
غراءَ حائمةً على الأنوارِ!

يا عاشقَ الحرية الثكلى أَفِقْ
واهتفْ بشعرك في شباب الدارِ!

يا مَنْ دعا للحق في أوطانهِ
ومضى ليهتفَ في ديار الجارِ!

الشامُ جازعةٌ ومصرُ كعهدها
نهبُ الخطوبِ قليلةُ الأنصارِ!

والحظُّ أطمارٌ كما شاءَ البلَى
والعيشُ رثٌّ والسنونُ عوارِ
•••
عامٌ مضى يا للزمان وطيِّه
فينا ويا لسَواخر الأقدارِ!

عامٌ مضى وكأنَّ أمس نعيُّه
يا ما أقلَّ العامَ في الأعمار!

أيْنَ الإمارة والأميرُ ودولة
مبسوطةُ السلطان في الأمصار؟!

خمسون عامًا وهي وارفةُ الجنَى
تحت الربيعِ دؤوبة الإثمارِ!

مَدَّ الخريفُ على الرياض رواقهُ
ومضى الربيعُ الضاحكُ النَّوَّارِ!
•••
هيهات أنسى قبلَ بينك ساعةً
جمعتْ صحابَك في غروب نهار!

والشمس في سقم الغروب وأنت/
في لونِ الشحوب معصفرٌ ببهارِ!

منحتْ وقد ذهبتْ شعاعًا غاربًا
كسناكَ طوَّافًا على السُّمارِ!

تشكو ليَ الضعفَ الملمَّ لعلَّ في
طبي مقيلًا مِن وشيكِ عثارِ!

وكشفت عن متهدِّمٍ جال الردى
متهجمٍ في صَرحه المنهارِ!

فرأيتُ ما صنع الضنى في صورةٍ
حالتْ، وخلَّى هيكلًا كإطارِ!

ووجمتُ ألمحُ في الغيوب نهايةً
وأرى بعينيَ غايةَ المضمارِ!

وأرى النبوغَ وقد تهاوى نجمُه
والعبقريةَ وهي في الإِدبارِ!

أوَلم يكن لك من زمانِك ذائدًا
وثباتُ ذهنٍ ماردٍ جبارِ؟

أوَلَمْ يكن لكَ من حمامِك عاصمًا
ذاك الجبين مكللًا بالغارِ؟

ولَّيتَ في إثْر الذين رثيتهُم
وأقمت فيهم مأتمَ الأشعار!

وسُقيتَ من كأسٍ تطوف بها يدٌ
محتومةُ الأقداح والأدوارِ!

والدهرُ يقذف بالمنايا دفَّقًا
فمضيتَ في متدفق التيارِ
•••
في ذمة الأجيالِ ما غنَّت به
قيثارةٌ سحريةُ الأوتارِ!

صدحتْ بألحان الحياة ووقَّعتْ
أنغامَها المحجوبة الأسرارِ!

والفنُّ ما حاكى الطبيعةَ آخذًا
منها ومن إعجازها بغرارِ!

مسترسلًا رحبًا كعينٍ ثرَّةٍ
شتى السيولِ سحيقةِ الأغوارِ!

متعاليًا حتى الأشعةِ مشرقًا
متألقاً كالكوكبِ السيَّارِ!
•••
شوقي نظمتَ فكنت برًّا خيِّرًا
في أمة ظمأى إلى الأخيارِ!

أرسلتَ شعرَك في المدائن هاديًا
شبهَ المنارِ يطوف بالأقطارِ!

تدعو إلى المجد القديمِ وغابرٍ
طي القرون مجلَّلٍ بوقارِ!

تدعو لمجدِ الشرق تجعل حبَّهُ
نصبَ القلوبِ وقبلةَ الأنظار!

تبكي العراقَ إذا استُبيحَ ولا تضنُّ /
على الشآم بمدمعٍ مدرارِ!

وترى الرجالَ وقد أُهين ذمارهم
خرجوا لصون كرامةٍ وذمارِ!

فلو استطعتَ مددتَ بين صفوفهم كفًّا مضرجةً مع الأحرارِ!
•••
ما زلتَ تُبعثُ في قريضِكَ ثاويًا
أو ماضيًا حَفِلًا بكلِّ فخارِ!

حتى اتُّهمتَ فقالَ قومٌ: شاعرٌ
ناجى الطلولَ وطاف بالآثارِ!

فجلوتَ ما لَم يشهدوا، ورسمت
ما لَم يعهدوا من معجز الأفكار!

شيخٌ يدبُّ إلى الأصيل وقلبُهُ
وجناُنهُ في نضرة الأسحارِ!

ويحسُّ تبريحَ الصبابَةِ واصفًا
مجنونَ ليلى في سحيقِ قفارِ!

ويروح يبعث كليوباترا ناشرًا
تلك العصور وطيفَها المتواري!

ويرى الحياةَ الحبَّ والحبَّ الحياة/
هما شعارُ العيش أيُّ شعارِ!

رحم الله شوقياً أمير الشعراء الخالد؛ وفرسان عصره النابض بالحياة من شعراء وكُتَّاب ومفكرين ؛منحوا الحياة الأدبية أشهى المذاقات وأعذبها ؛وتركوا لنا إرثاً نفيساً من البيان الرصين؛ والفكر المستنير ؛وتجلياتٍ لاعداد لها.

Related Articles

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button