المقالات

المتاجرة بالدماء

قبل فترة ليست بالقصيرة انتشرت قصص التجارة بالديات بين كثير من لجان الإصلاح، ووصل بالبعض منهم إلى إجبار ذوي المقتول بعدم العفو عن القاتل إلا بمبلغ وقدره، ويحدد المبلغ (طبعًا، المبلغ شامل أجور سعي لمن يطلقون على أنفسهم لجنة إصلاح ذات البين).

ولا أعلم إن كانت تلك اللجان هي المرخصة من مقام إمارات المناطق؟ أو أنها تضم من هب ودب من الوجهاء والأعيان ممن لديه اللياقة الكافية للصولات والجولات في مشارق الأرض ومغاربها، وهو الغالب حسب ما أظن؟!

وأذكر أحدهم كما بلغني كان يشترط على ذوي القاتل تأمين سيارة فاخرة وفندق خمس نجوم له ولحاشيته؛ بالإضافة إلى ما يرضي ذائقته من المأكل والمشرب وقبل هذا وذاك يشترط مبلغًا يدفع مقدمًا له سواءً تم الصلح أم لم يتم لقاء جولاته وصولاته، ويقوم بعمله أحيانًا لدى الطرفين ليستطيع حصد أكبر فائدة ممكنة.

ولا شك أن لذوي المقتول حق المطالبة بما يريدون من مبلغ الدية لكن دون مبالغة، وأقصد بالمبالغة تلك التي تتطلب نصب الخيام، وتجمعات القبائل وإقامة الولائم لاستقبال المساعدات المالية من أجل جمع الديات في ظاهرة بعيدة كل البُعد عن الدين والتقاليد والأعراف القبلية الحميدة.

ويتجه بعض أطراف الصلح من السماسرة والوسطاء إلى تحويل مسار الصلح إلى تجارة واستغلال يصب في مصلحة جيوبهم، ويؤثّرون على أهل الدم في مجريات سير القضية بصورة ناصحين بينما هم منتفعين شغلهم الشاغل كيفية التكسب من وراء مصيبة أهل القاتل والمقتول.

ثم صدرت عام 2011 موافقة رسمية بتعديل مقدار الدية ونصَّ الأمر السامي الكريم بالموافقة على قرار المحكمة العُليا بتعديل مقادير الديات؛ إذ بلغ تقدير دية القتل العمد وشبه العمد بـ400 ألف ريال والقتل الخطأ بـ 300 ألف ريال، ولكن للأسف الشديد لا زالت تلك المجموعات تزاول نشاطها تحت ستار الصلح وضغط العاطفة بكل ما أوتيت من قوة.

في الجانب الآخر لا نلوم ذوي القاتل فهم يسعون إلى إنقاذ ابنهم مهما كلفهم ذلك إحياءً للنفس البشرية التي رغَّب المولى -عز وجل- في إحيائها وخوفًا من العار والفضيحة أمام الآخرين إذا لم يقفوا مع قريبهم سواءً كان مخطيًا أو مصيبًا!!

ولذلك اتجهت مساعي الصلح إلى منحى آخر، وقد رأينا من يقومون بشق ثيابهم ورمي عمائمهم وتكبيل أنفسهم لاستدارار عطف ذوي المقتول للعفو عن القاتل بسبب أفعالٍ طائشة أقدم عليها شباب طائشون، أجبروا أقاربهم على التذلل والخضوع؛ نتيجة نزعات غضب في ساعة طيش لم يتمالكوا أنفسهم حينها.

ولا بد من الإشارة إلى أن هناك تجاوزات تدفع إلى المزيد من جرائم القتل حينما تصبح القصايد والشيلات مفتاحًا لإخراج القاتل من السجن وافتدائه بأي مبلغ يتحمله عنه الآخرون دون النظر إلى أسباب ارتكابه تلك الجريمة النكراء.

ولذلك من الأفضل أن تُقدَّر الديات بين أبناء القبيلة، ويُعطى للتوعية حقها من العلماء وأساتذة الجامعات وخطباء الجوامع، ليقدموا توعية سليمة مبنيّة على دراسات دينية صحيحة عن ضبط النفس والتصرف بحكمة في ساعة الغضب مع ترسيخ العفو والشهامة والمعروف والتسامح والاحترام والعطف بين أفراد المجتمع، كما يجب أن يكون لمشايخ القبائل جهود وحراك قوي ومؤثر في كبح من تحت رعايتهم عن المبالغة في هذا الأمر، والأخذ على أيديهم ومعالجة هذه الظاهرة بما يحقق مصلحة المجتمع وحفظ النفس البشرية وما يلزم للحفاظ عليها من الأمن والنظام، والبُعد كل البعد عن *المتاجرة بالدماء *.

✍️ كاتب رأي ومستشار أمني

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى