المؤسسة الإعلامية الأمريكية للأخبار والتقارير الدولية (US NEWS & World Report) تميزت بتصنيفها السنوي لأفضل الجامعات والكليات، والذي يعد الأقدم والأكثر رواجًا في الولايات المتحدة الأمريكية، تواجه اليوم مأزق انسحاب مجموعة من أعرق كليات الطب والقانون في جامعات الولايات المتحدة الأمريكية من المشاركة في تصنيفها.
تصنيفات الجامعات من أكثر الموضوعات إثارة للجدل بين الأكاديميين والمهتمين بالتعليم عالميًا، بغض النظر عن خلفياتهم العلمية وتخصصاتهم وهو موضوع بلا شك يهم الجميع، فبعض نتائج التصنيفات مثيرة للاستغراب ولا يوجد لها دليل على أرض الواقع، ومع كل إصدار جديد يكثر الجدل حول نتائج وجدوى التصنيفات بين مؤكد للاستحقاق ومشكك، ويتجنب الكثير من القيادات الإدارية في الجامعات التطرق إلى تفاصيلها الدقيقة.
مؤخرًا ازدهر سوق التصنيفات وظهرت أسماء كثيرة لمنظمات تصنيف، منها من تَمَّ التعاقد معها من قِبل الجامعات والأخرى تطفلت على الأنظمة التعليمية بإصدار تقاريرها بالاعتماد على مصادر البيانات المفتوحة، أصبح الجدل حول التصنيفات ليس مسألة محلية أو إقليمية، ولا يتعلق بدولة أو نظام تعليمي محدد دون غيره بل إن هناك خلافًا ظاهرًا ومرصودًا وللمختصين في مجال جودة المؤسسات التعليمية رأي فيه. واقعيًا التصنيفات قوة ناعمة وإن كان هدفها إعلاميًا فهي مهمة للجميع في التسويق الدولي لبرامج الدراسات العُليا، وهي مرآة تستخدم لتعكس صورة إيجابية لتقدم التعليم ولما تنفقه الدول على برامجها التعليمية.
تجنبًا للّبس علينا استيعاب وجود فرق بين هدف عملية التصنيفات وبين برامج الجودة الأول ذات الأهداف التجارية الاستهلاكية الواضحة ساعده الفضاء الإلكتروني على الانتشار، بالإضافة إلى التسويق عبر استغلال الدافع لدى المستفيدين لمطالعة المقارنات الإحصائية بين المؤسسات المصنفة، ويعيب هذا النظام سهولة استغلاله من قِبَل الأنظمة التعليمية أو المشرفين عليها بإخفاء الكثير من الإخفاقات داخله كما هو حاصل في نظام التعليم الأمريكي موضوعنا، أما النوع الآخر هو نظام تقويمي يشمل جميع عناصر العملية التعليمية ويرصد متغيراتها وتقاطعاتها يربط بين نظريات التعليم والممارسات ويدار بشكل مستقل وشفاف ويرشد مؤسسات التعليم نحو الخلل وطرق تحسين مخرجاتها وتحقيق أهدافها، ويخدم المصالح الوطنية العليا، يصمم ويشرف على هذا النوع متخصصون في ممارسات التعليم تنشر نتائجه في مجلات علمية وتتداول في المؤتمرات المتخصصة.
يمكن القول بأن الفوضى تحدث عند تداخل أهداف النموذجين؛ بسبب غياب نظام حوكمة قوي يضع قواعد تضبط طريقة التعاطي مع التصنيفات وفصلها عن عملية الجودة ولعل الجدال الحاصل حاليًا بين بعض الجامعات الأمريكية العريقة والتي قررت الانسحاب من التصنيف وبين العملاق الإعلامي (المؤسسة الأمريكية للأخبار والتقارير الدولية) US News & International Reports خير مثال على الخلل الذي حدث؛ نتيجة لتداخل الأهداف واستغلال مؤسسات التعليم لذلك لأهداف تسويقية غالبًا، بتزييف نتائجها بالشكل الذي يؤثر سلبًا على سير المؤسسات التعليمية ومخرجاتها والتأثير على الرأي المجتمعي.
إن نظام التعليم العالي في الولايات المتحدة الأمريكية مستقل، يعتمد على الرسوم الدراسية التي تدفع من قبل الطلاب، لذلك التنافس كبير بين الجامعات لترك انطباع جيد عن جودة برامجها المقدمة، واستغلالًا لذلك نجح تصنيف المؤسسة الأمريكية للأخبار والتقارير الدولية US News & International Reports في الدخول وجذب الجامعات إلى التنافس فيما بينها، وفق معايير التصنيف “التجارية” وبعيدًا عن المعايير “الأكاديمية” لبرامج الجامعات.
وفي المقابل تغاضت US News عن كثير من الممارسات والتوظيف غير الأخلاقي للتصنيف، يذكر كولن ديفر: يُعد التقدم في التصنيف حافزًا قويًا لمؤسسات التعليم؛ للتلاعب بالبيانات وتشويه سلوك المنظمات التعليمية فكلما تقدمت في التصنيف كان ذلك مبررًا لها في زيادة رسومها الدراسية، الأمر الذي يجذب إليها الطلاب الأقدر ماليًا وليس الأكفأ أكاديميًا ولعل هذه الممارسات وغيرها تُرجح فرضية المعارضين لتصنيف US News، والتي تربط في العلاقة بين تراجع التعليم العالي الأمريكي وزيادة تأثير “مؤسسة التصنيف الإعلامية”.
مؤخرًا أدركت كثير من الجامعات العريقة الخطأ الذي أدى إلى وقوع سمعتها رهينة لتقارير مؤسسة إعلامية وأدخلها في مقارنة مع جامعات أخرى متأخرة عنها، ونتج عن ذلك سلسلة من الانسحابات المتتالية لمجموعة من الجامعات العريقة، بالرغم من تصنيف US News لكليات القانون بجامعتي “يال وهارفارد” منذ ثلاثة عقود كأفضل كليتين في العالم، إلا أن ذلك لم يمنع هاتين الكليتين من الانسحاب من هذا التصنيف، وتبع ذلك انسحابات أخرى لأشهر كليات القانون والطب في الولايات المتحدة الأمريكية، مثل جامعة “ستانفورد” و”كولومبيا” و”بيركلي” و”جورج تاون” و”بنسلفانيا”، وجاء تبرير هذا الانسحاب إلى أن معايير تصنيف US News خلقت بيئة رديئة أساءت للتنوع الطلابي والعدالة في اختيار الطلاب، وقدمت نتائج تصنيف لا تقيس جودة التعليم، الأمر الذي أضر بمستقبل مهنة القانون والطب.
يقول الرئيس التنفيذي وعميد كلية الطب في جامعة “واشنطن” تموثي ديليت بأنه يجب أن نلحق ببقية الجامعات المنسحبة من التصنيف، حيث إن التركيز على معيار السمعة للجامعة والمكانة الأكاديمية مع غياب معايير موضوعية لقياس جودة التعليم الطبي تتعارض مع رؤيتنا لمستقبل تعليم الطب”، فيما يبرر عميد كلية الطب في جامعة ستانفورد قرار الانسحاب بقوله “نعتقد بأن قرارنا إلى جانب قرارات عدد متزايد من الكليات النظيرة ضروري؛ لإجراء مراجعة طال انتظارها حول كيفية تقييم جودة التعليم الطبي والطريقة المثلى لتعليم الطب لطلابنا”، العديد من التساؤلات تثار عن ما هو سر تأخر خطوة الانسحاب واقتصاره إلى الآن على كليتي القانون والطب فقط في الجامعات الأعلى تصنيفًا!، ولماذا إلى الآن كليتا القانون والطب فقط في الجامعات الأعلى تصنيفًا هي المنسحبة.
يؤكد “كولن ديفر” مؤلف كتاب: “تدمير التصنيفات Breaking Ranks”، “إن تردد الجامعات لفترة طويلة من الانسحاب المنفرد كان بسبب الخوف من العقاب الذي يلحقها من شركة التصنيف والذي قد يضر بتسويقها في جذب الطلاب للالتحاق ببرامجها” حيث إن نزع السلاح من جانب واحد هو انتحار، لذلك فإن غالبية الجامعات الأمريكية مضطرة للانصياع لمتطلبات التصنيف خوفًا من العقوبة.
ولكن هل تحتاج الجامعات ذات السمعة العالية لتسويق US News؟ أم أن سمعتها العالمية تغنيها عن تسويق US News، من جانب تسويقي فإن كليات الطب والقانون في الجامعات المنسحبة لا تحتاج إلى إعلانات لجذب الطلاب فنسبة الحصول على مقعد في كلية الطب في جامعة هارفارد مثلًا لا تتجاوز ٢.٧% من العدد الكلي للمتقدمين المستوفين للشروط؛ لذلك فلا ضرر على هذه الجامعات من مبادرة الانسحاب.
من الواضح لنا.. إن US News أدركت خطورة تتابع الانسحابات لكليات جامعات النخبة، الأمر الذي تسبب بضرر كبير بسمعة التصنيف فكيف سيصبح للتصنيف مصداقية دون تواجد أفضل الجامعات على مستوى العالم حسب البيانات الصادرة من التصنيف ذاته. وبحسب (إريك جيرتلر) الرئيس التنفيذي لشركة US News، بأنه ماضٍ في تصنيف الجهات المنسحبة معتمدًا على المعلومات المتوفرة في المصادر المفتوحة على الشبكة العنكبوتية أو موقع الجامعة.
جدل كبير في الإعلام الأمريكي بخصوص جدوى التصنيف، ولكن ما يهمنا هو كيفية الاستفادة من هذا الجدال. الواقع يفرض التسويق الإعلامي لمؤسساتنا التعليمية، فالإعلام قوة ناعمة يجب أن يحسن استخدامها؛ لإبراز المنجزات الوطنية، ولكن يجب ألا يتخطى ذلك إبراز المنجزات وتشجيع المنافسة الشريفة، والحذر من تمكين جهات دولية ذات أهداف تجارية من تأجيج التنافس السلبي حرصًا على نزاهة البيئة التعليمية.
يتفق العديد من المهتمين والمختصين في مجال جودة التَّعليم أنَّ مؤسسات التصنيف لا تجلب الجودة للتعليم، لذلك يجب ألا تُستنزف الجهود، ناهيك عن الأموال لتحقيق معاييرها. إن غاية عمليات الجودة تطوير التعليم وتحقيق أهدافه، وما عمليات التصنيف الحالية إلا مؤشرات إحصائية ترصد مجموعة متغيرات تفتقر إلى القراءة والتحليل التربوي والاجتماعي والثقافي.
من الضروري تشجيع إنشاء “بيوت خبرة محلية” مستقلة متخصصة في تقويم التعليم يشرف عليها فكر تربوي اجتماعي وثقافي، تعمل تحت مظلة وطنية تساند في زيادة الوعي بمعايير الجودة العالمية بعقد لقاءات ونشر أبحاث وتقارير علمية تهتم بتطوير جميع مكونات العملية التعليمية لدينا ودراسة تأثير كل عنصر على مخرجاتها وتقدم خطط تطويرية مناسبة يتم تطبيقها ومراجعتها في عملية مستمرة.
أخيرًا.. إن خطوة انسحاب الجامعات مستقبلًا من التصنيفات لأي سبب ستكون مكلفة، لذلك يجب التعامل مع مؤسسات التصنيف الدولية التي تطرق باب جامعاتنا بحذر وبإشراف جهة مركزية، فهدف التصنيفات التجاري وعملها بعيد عن نطاقها الجغرافي الرقابي قد يجعل تنازلها عن بعض أخلاقياتها أمرًا واردًا.
0