قضيت فى هذه المهنة برهة من الزمن معلّمًا لمادة علم النفس لأكثر من ثلاثين عامًا ما بين المعاهد والثانويات وكلية إعداد المعلمين ومديرًا لمدرسة، وإنّي أينما توجهت بينهم أجد ترحيبًا حافلًا بي في الاستقبال، ووداعًا مثله عند الترحال؛ فكأنما يقال لي منهم أو أذهب إليهم (حللت أهلًا ونزلت سهلًا)، وهذا التكريم ليس لي وحدي، وإنما لكل معلّم عندما ينتقل من مؤسسة تعليمية لأخرى..
وبعد طول ذلك الزمن وبعد مسافة هذا المشوار تقاعدت مثل غيري من المعلمين المتقاعدين، وسلّمت راية العلم والتعليم لمن أتى بعدي لشرف هذه المهنة وليس هذا فحسب، وإنما كل معلّم كان ولا يزال يُكرم في مناسبة أخيرة وكبرى (عند استراحة محارب إن صح التعبير) في كل مدينة من مدن المملكة الحبيبة؛ وذلك احتفالًا بهم عند التقاعد من مدير ووزير التعليم..
وبعد كل تلك السنوات من حياتي في هذه المهنة الشريفة، أشعر بالفخر والاعتزاز عندما أذهب لقضاء ما يلزم لي، في أي مؤسسة حكومية وأهلية وفى أي مكان كان؛ فأجد أحد أبنائي الطلّاب هناك واقفًا يسلّم علي ويكرمني فكان منهم الطبيب والمهندس والمدير والضابط والتاجر، وحتى في الفضاء احتُفل بى، وتم تكريمي فلقد كان منهم مضيفًا وكابتن طيّار!
حقًا.. إنه تكريم نبيل فيه صدق المشاعر قد لا تجد شبيهًا له، وقد لا تجد مثله فى أي مؤسسة أخرى أيًا كانت هذه المؤسسة..
أخيرًا بعد مرور ذلك الزمن في هذه المهنة، وبعد كل ذلك الترحيب وتلك الحفاوة وأنت على رأس العمل في هذه المهنة معلّمٌ، وبعد كل ذلك التكريم وأنت متقاعد، تذكرت إحساس أمير الشعراء “أحمد شوقى” بالمعلّم عندما قال:
“قُم للمُعلم وفه التبجيلا
كاد المعلم أن يكون رسولا”
0