المقالات

مأساوية كسر الحدود مع الآخرين!

نحن بشر في نهاية المطاف. يقلب الله أفئدتنا، ويبدل أمزجتنا من حال إلى حال وفقًا لمآلات الحياة وتعاقباتها. إذا اتفقنا حول مضمون هذا الاستهلال فإننا سنقطع أكثر من ٨٠٪ من الجدل حول ما سيأتي بعده.

اليوم لازال البعض يعيش بمفهوم الأمس حول طبيعة العلاقة مع الآخرين. مازال بعض أفراد المجتمع يعيش وهم الوصاية ضد معتقدات وتصرفات وحركات وسكنات الآخرين. فتراه أشبه بالنابغة الذبياني الذي نصبت له خيمة في سوق عكاظ؛ ليحكم بين الشعراء ويقيم ثم يقوّم قريحتهم وشاعريتهم. هذا الفهم لم يعد مجديًا في زمن الحياة الذكية أي الحياة التي تؤمن أنه يوجد منطق وراء كل فعل، ويوجد سبب وراء كل قرار، ويوجد فكر معقول ومقبول خلف كل إجراء أو سلوك.

لازال البعض يرى نفسه مدعيًا عامًا يمتلك حق المساءلة والتحقيق مع الآخرين حول ما يقومون به من تصرفات؛ وكأن السلوك الفردي الخاص ملك مشاع لمن يعتقد أنه يملك الحق بسلطة العمر أو الحكمة أو المنصب أو الجاه أو الدم والقرابة. مازال البعض يترصد بدقة سلوكيات الناس القولية والفعلية ثم يفتح سجل الاستجواب حول صحة ما قيل أو مناسبته أو سببه أو الإيحاء الخفي المقصود منه أو حتى توقيت ومكان التفوه به.

هذا التعدي الاجتماعي حول خصوصية الناس من بعض الناس في حقيقته محاولة فرض سلطة اجتماعية وتعزيز نقص يشعر به بعض الناس؛ ليستمر لهم ما يمكن تسميته بالمهابة المجتمعية والسطوة الفكرية على بعض البائسين الذين يغلب عليهم الخجل أو الحياء أو الخوف أو سِمها ما شئت.

لازلت إلى حينه لا أفهم لماذا يصر أحدهم على فرض رأيه على الآخر في الملبس والمأكل، والمشرب والزواج والطلاق، والسفر والدراسة والترفيه، والنوم والاستيقاظ؛ وكأن هذه الممارسات المعيشية تخضع لقانون يشبه قانون نيوتن الأول الذي ينص على أن الجسم سيبقى في حالة سرعة ثابتة ما لم تؤثر عليه قوة خارجية تُغير تلك السرعة، وإن صاحبنا الوصي أو المستشرف أو المنقذ سيكون هو تلك القوة الخارجية التي ستصلح كيان من خرجت عليه.

إن القانون الأول في علم الأخلاق ينص على احترام خصوصيات الناس وعدم التدخل فيها من قبل الآخرين إن لم يطلب منهم ذلك، ووفقًا للأخلاق فإن التدخل البشع حين يحدث سيكون لا أخلاقي مما يجعل للمتضرر الحق في الدفاع عن نفسه بالرفض أو الزجر أو النهر أو القمع بما يتناسب وطبيعة الإيذاء النفسي الذي وقع عليه.

ولأن الحياة اليوم ذكية كما قلت؛ فإن كثير من مظاهر التدخل في شؤون الناس يظهر على واجهات التطبيقات الذكية ووسائل التواصل فبمجرد أن يطرح أحدهم حدثًا يوميًا طبيعيًا أو تصرفًا بسيطًا حدث له، تنهال أطنان الوصاية من بعض المتلقين على شكل ذم للتصرف أو تعديل للسلوك أو مهاجمة للنوايا أو توقع للمقاصد أو محاسبة للأهداف؛ بحيث تصبح الردود مجموعة من الوصايات الاستعمارية وتحجيمًا للحريات وتنمرًا لا يليق بشخصيات يفترض فيها الرزانة والرصانة والتعالي عن سفاسف الأمور.

لا بد أن نتعلم كبح جماح الوصاية لنعيش حياة سعيدة. لا بد أن نتعلم قيمة الاستماع والمشاهدة فقط دون رد لننعم بالهدوء. لا بد أن نتعلم أنه لا يجدر دومًا التعليق على كل خاطرة، والرد على كل مقولة، والتعليق على كل وجهة نظر. لا بد أن نتعلم أن بعض الناس قد يقبلون بالتدخل في بعض الأمور وفقًا لمحددات مقبولة في بعض الأوقات، ولكن لن يقبل كل الناس بالتدخل في كل الأمور في كل الأوقات.. لا بد أن نتعلم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى