أولًا وقبل أي كلام يجب أن نعلم أن الشعر هبة من الله يعطيه من يشاء ويمنعه ممن يشاء، مثله مثل أي فن آخر كالرسم أو النحت أو الغناء أو العزف أو إتقان لعبة من الألعاب الموجودة، ورغم أن الشعر ديوان العرب، والشاعر لسان قومه إلا أنه من الناحية الدينية والخلقية ليس مفخرة، ولو كان كذالك لما نفاه الله عن نبيه عليه وعلى آله الصلاة والسلام؛ فقال جُل من قائل وما علمناه الشعر وما ينبغي له.، ووصف أصدق الواصفين بأن الشعراء يتبعهم الغاوون! وأنهم في كل واد يهيمون، وأنهم يقولون ما لا يفعلون، واستثني جل شأنه من اتسم بالتقوى، وقليل ما هم.
أقول وبالله التوفيق إن شعر العرب في أساسه كلام موزون ومقفى يلتزم قائله ببحر واحد للقصيدة قلت أو كثرت، ويلتزم بقافية واحدة، كذالك سواء في الأحرف أو في الحركات الإعرابية. مع استثناءات قليلة، سمح بها النقاد للضرورة على ألا تكرر كثيرًا. شعر العرب قبل أن تدخل عليه اللهجات المختلفة كان صلب البناء محكم التفعيلة واضح المعاني لم يكن به رمزية خافية على مستمع إلا من شذ بقلة فهمه. ما عدا ذلك فهو واضح في غرضه إن كان حكمة وإن كان مدحًا وإن كان هجاءً، وإن كان رثاءً، وإن كان فخرًا وإن كان تشببًا وغزلًا. وربما تحمل القصيدة الواحدة أغراضًا متعددة. لم يكن الشاعر يفخر بنفسه في شعره بشعره إلا نادرًا كقول المتنبي..في ميمته المشهورة:
أنام ملء عيوني عن شواردها.. ويسهر القوم جراها ويختصم.
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي
وأسمعت كلماتي من به صمم..
وقليلًا ما تجد هذا في شعر العرب.
أما فخر الشاعر بحسبه ونسبه وشجاعته وكرمه، وما ذلك من الأخلاق الحميدة فحدث ولا حرج…
ثم تقسمت الأقاليم العربية، وبدأ ينفرط عقد الشعر. فاتخذ منحى لا يختلف كثيرًا عن سابقه إلا في عدم الالتزام بالنحو العربي الصحيح. الكلام عربي لهجة يفهمها أهلها، ومن حولهم ورغم التزامهم ببحور الغناء والقافية إلا أنهم لم يعد يعيروا الإعراب نحوًا وصرفًا أي اهتمام فانتصب الفاعل وارتفع المفعول به ((نحوًا)) ولم يعد يفرق مبتدأه عن خبره ولا نواصبه، ولا روافعه ولا جوازمه ولا حاله ولا صفته. ورغم ذلك تمسك بعذوبته وجماله، وارتاحت له القلوب وأصغت له الأسماع، وخرج من خرج بشعر التفعيلة، وكان له جمهوره ومحبوه، ولم يفت في قناة الشعر وبقي يتوارى حينًا ويظهر أحيانًا.. فاستمرت الحياة وتعددت الشعوب والقبائل وأصبح لكل قبيلة فن من فنون الشعر حسب المقتضي أما للحماس والحرب والفزعات بين أبناء العمومة إما لأخذ ثأر أو دحر عدو أو إنجاز عمل أو للترويح عن الأنفس بعد شقاء الأعمال وليست قبيلة زهران بدعًا من القبائل بل هي كمثلهم، وما جاورها من أبناء العمومة اشتركوا في الفنون ذاتها مثلهم بالضبط أو باختلافات طفيفة كلما زاد البعد كبر الاختلاف.
ويعتبر شعر زهران بجميع أنواعه وأشهره العرضة ثم اللعب ثم المجالسي والمسحباني واللبيني والهرموج وطرق الجبل، وبعض الأخوانيات التي كانت من شخص لآخر، وحصلت في أغلب الفنون مدحًا وهجاءً وغزلًا وعتابًا و وو وإلخ.
مر شعر زهران كأي قبيلة أخري بتطورات كثيرة، وهو من أصعب شعر العرب حيث الشقر والشقر لم يكن صعبًا في بدايته؛ حيث لم يكن يتكلف الشعراء شقرا بغيض بل كان يكفيهم سجع الكلام، ولو اختلفت الكلمتان. وبدأ يصعب شيئًا فشيئًا؛ حتى وصلنا في المرحلة الخالية إلى شقر بغيض يتكلفه الشعراء إلى أنك تعسف الكلمة، وكم والله أزريت على بعض شعارنا الكبار؛ وخصوصًا المثقففين منهم قلب الكلمة رأسًا على عقب حتى توافق الشقر سواء بدعًا أو ردًا.. مما يضطر الشاعر إلى تفسير ما يعني لعلمه أن المتلقي لن يفكر بهذا القلب غير المبرر. كان شعارًا يأتون بكلام جميل جدًا، وله عذوبة ولا تمل سماعه وسهل حفظه التي دخلت علينا قصور الأفراح؛، فأصبح الشعار “مقاولون” يهمهم تسليم المشروع وقبض الأجرة. وتقاربت المسافات فاختلط الحابل بالنابل، وأصبح الجمهور والعرضة من كل واد عصي بل إن بعضهم لا يجيد العرضة، ولا يستمتع بالقصائد وهمه أنه حضر حلبة مصارعة ينفخ في النار ويصيح لمن يعجبه ويشجع المهاترات كأن شعراءنا يضعون بين السطور كلمات وبين الكلمات معانٍ وما يسمي بالخبو. حتى اختلطنا بغيرنا فأصبح الكلام سفاحًا وتجريحا علنيًا وتحديًا صريحًا، وهمّ الشاعر أن يمسك القافية، ويتحدى زميله ويرضي الجمهور بكلام لا سياق له ولا طعم ولا رائحة بل ربما وقع في المحظور فقلب مدح أصحاب الحفل إلى ذم. كانت هذه الأمور بسيطة، وتنعد على الأصابع حتى عرفنا ابن ثائب رحمه الله ومن ثم عطية السوطاني الذي اختلفت مع أقرب الأقربين حول شاعريته. فهو شاعر يمسك القافية وشجاع لا شك، ولكن في غير موقع الشجاعة؛ فهو غدة شعار ولكن بكلام موزون ومقفي لا طعم له. وأنا لم أسمع لعطية رحمه الله قصيدة واحدة تلامس شغاف القلب. وبدأ ينفرط العقد فهذا زعكان المالكي الذي كان يضرب بابية المثل في السمو والشعر الأخلاق الحميدة.. هاهو يخرج عن دائرة الصواب ويطعن في نسب شاعر آخر هو الساعدي. الساعدي شاعر جميل ولكنه نشد الشهرة بتقمص شخصية عطية؛ فلم يلحق بركب البيضاني واللخمي وعبدالواحد وابن حوقان والشيخي والدرمحي كشاعر. فأراد أن يعوض ذلك بمنهج عطية فضاع بين السبيلين إلى أن وصل أن يخلع حذاءه فوق المنصة وأمام الناس ليضرب بها خصمه ابن عمه زعكان. هذا والله انحدار خظير في شعرنا وإسفاف لم يسبقه إسفاف..
وأنا والله من حبي لزهران وحبي لشعر زهران بكل أغراضه، أنادي الشعراء إلى التزام الأدب والأخلاق والارتقاء بكلماتهم وأبياتهم.
وأنحى باللائمة أولا على أصحاب الحفل فيجب أن تقيد الشاعر الذي دفعت له من مالك وهو بالعربي الفصيح أجير عندك حتي ينقضي الحفل تقيده بعدم الخروج عن النص لا فيما يخص البلد ولا القبائل، ولا أهل الحفل ولا زملاءه الشعار وإن خالف فلكل مخالفة عقوبة.
ثم انحى باللائمة على شيوخ قبائل زهران وأندبهم إلى حماية مورثنا الغالي من هذا الانحطاط والإسفاف بزجر المخالف ونهيه وردعه وإن استدعى الأمر يعرض أمره علي سلطات البلد ولو يصدر أمر بإيقافه مثله مثل أي مخالف..
شعرنا من أجمل الفنون وليت المجال يتسع فأشنف آذانكم بأمثلة، ولكن بإذن الله في مقالة أخرى، ولكم صادق الود والسلام عليكم.
0