كثرت في مجتمعنا تجارة الدم والجاهيات الكذّابة تحت غطاء إصلاح ذات البين؛ حتى أصبحت تجارة رائجة لها أهلها ورموزها المعروفين من بعض مشائخ القبائل وبعض من مشائخ الدين وآخرين من أصحاب (البشوت).
لا أبالغ عندما أقول: إن أطياف المجتمع السعودي القبلي بالذات يعرفون هؤلاء جيدًا وبالأسماء، وما زالت قصصهم تشنف الأسماع بوقاحتها هؤلاء يتقاضون الملايين من أقارب المحكومين بالقصاص سواء كان قصاص قتل أو غيره من الأحكام القضائية مقابل أن يسعوا في العفو أو التنازل المشروط ..
وعندما قامت الدولة -رعاها الله- بتشديد الرقابة على البنوك والتحويلات المالية ابتكروا طرقًا أخرى للحصول على مبتغاهم مثل الهدايا العينية الثمينة من سيارات فارهة وقطع الأراضي والعقارات حتى إن بعضهم أصبح يطلب ساعات اليد النادرة ..
نعم هذا حال تجار الدم في مجتمعنا حتى كاد أن يندثر عمل الخير، ويضعف دور لجان إصلاح ذات البين التطوعية.
أنا لا ألوم أهل القاتل لرغبتهم في إنقاذ ابنهم بأي طريقة كانت، ولا ألوم أصحاب الحقّ في طلب المبالغ التعجيزية؛ ليطفئوا لهيب غضبهم على فقيدهم أو مصابهم.. اللّوم يطال هذه العينات من المجتمع ممن يعيشون على مصائب الناس، ويستغلون حاجاتهم لجني المال باسم الدين والعُرف والإصلاح.
وظهرت في الآونة الأخيرة ظاهرة جديدة لا تمت للأعراف القبلية ولا للمجتمع، ولا للعادات العربية بصلة أبدًا، وهي حشد الجموع أمام بيت أهل المقتول بالأيام والليالي بقصد طلب العفو والتنازل.
هل من العقل حشد المئات من الناس أمام بيوت أهل الدم؟! وتحرمهم من الخروج لقضاء لوازمهم وتمنع عوائلهم وأهلهم من مغادرة منزلهم وتنادي وتستنجد أمام باب البيت لتروع أطفالهم وأسرهم، وتزعج جيرانهم ومن حولهم من أجل أن تطلب العفو.
ما نعلمه ويعلمه الجميع أن لطلب العفو أبوابًا وطرقًا وأساليب لا يجهلها العقلاء.. أما ما نراه اليوم لا يعدو كونه تقييدًا لحرية حركة أهل الدم وإحراجًا لأسرهم وترويعًا لأطفالهم، وإزعاجًا للمارة وإغلاقًا للطرق وإشغالًا لرجال الأمن.
وفيما يبدو أن تجار الدم تعددت أساليبهم وتفاقمت بجاحتهم وتنامت أفكارهم وابتكاراتهم لطلب التنازل والعفو عبر المنصات الاجتماعية في وسائل التواصل عبر البرامج سواء كان عبر منصة التوك توك أو هاشتقات منصة X ليضغط بطريقة أو بأخرى على أهل الدم؛ لكي يجعلوا منها قضية رأي عام والتأثير على أسرة المقتول أو المصاب.
ويبدو والله أعلم أن تجارة الدم وصلت لمشاهير السوشال ميديا الذين لم يكفيهم تسول الناس في منصاتهم ليتسولوا الصلح فيما بين الأخصام ونتمنى أن تكون نواياهم سليمة.
وبما أن مساعي إصلاح ذات البين مطلب شرعي واجتماعي له من الإيجابيات الكثيرة خاصة وأنه عُرف قبلي محمود حث عليه الشرع؛ فإنني أقترح على وزارة الداخلية ممثلة في إمارات المناطق أن تفرض على المتخاصمين جلسات للصلح داخل مقرات لجان الصلح وتُلزمهم بحضور جلسات الصلح بوجود أعضاء اللجان ومن يرون حضوره مؤثرًا من أعيان المجتمع مع حفظ حقوق أهل الدم في القبول أو الرفض على يد اللجنة.
وتُحدد لها مواعيد مشابهة لمواعيد جلسات التقاضي وعلى اللجنة دعوة من تراه مؤثرًا لإقناع أهل الدم ممن يثق فيهم الناس خاصة في القضايا الكبيرة، ويتم منع ذهاب ذويّ السجين لمنزل أهل الدم لغرض التجمع أمام المنزل والمطالبة بالتنازل تحت ضغوط مشائخ القبائل وغيرهم من الناس، وإن كان هناك من رسالة لمن يريد إصلاح ذات البين هي:
- عندما تتعاطف مع والدة القتيل تذكر أن هناك أمًا للمقتول مازالت تئن على فقد ابنها.
- عندما تأتي لطلب الصلح بين متخاصمين اعرف حيثيات القضية وأبعادها ليس كل قضية ينبغي فيها الصلح.
- قبل أن تذهب لطلب عتق رقبة شخصًا ما تذكر قوله تعالى :(وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)(البقرة: 179)، ونسأل الله -عز وجل- أن يصلح شأن المسلمين ويحفظ قيادة هذا البلد الآمن، ويحمي مجتمعنا من الآفات الاجتماعية المقيتة.