المقالات

مائدة بلا أسرة!

في مجتمعنا السعودي وإلى وقت قريب كان الاجتماع الأسري ثلاث مرات على مائدة الطعام أشبه بوصفة طبية لا يمكن بحال إهمالها أو عدم أخذها في موعدها. في تلك المرات الثلاث كان للاجتماع الأسري أُنس وطقوس قريبة جدًا من وصف الفيلسوف فريدريك نيتشه الذي قال: “إن إجتماع الأسرة بمثابة الزيت الذي يخفف الاحتكاك، والإسمنت الذي يربط البناء، والموسيقى التي تتراقص وتتمايل بتناغم لها الأرواح! “

كان الاجتماع حول المائدة أشبه باجتماع عمل يتفقد فيه رئيس مجلس الإدارة “رب البيت” شؤون زملاء العمل “أسرته”، كان الاجتماع حول الطعام مثل الطبيب والمريض، يسأل فيه كل واحد عن صحة الآخر، ويتفقد توعكه ويوصي بما يخفف ألمه، كان الاجتماع الأسري مثل شخص ينتظر خبرًا سارًا فالكل حول المائدة ينتظر أخبار الآخر، والجميع يصغي باهتمام للثاني، والكل يعقد الأماني لمن معه، كان الاجتماع تآلف أسرة حقيقي رباطها الحب، ورأسها الوالدان، وقوامها أخوة وأخوات
يتحابون ويترابطون.

لم يكن الطعام الذي يقدم في الاجتماع الأسري سوى الجرس الذي يحضر كل واحد من غرفته ليستمتع ويمتع الباقين بما لديه من أخبار.. كيف كان يومه الدراسي؟ ما هو الحدث الغريب الذي حصل اليوم؟ لماذا لم يقم أحدهم بالدور المطلوب منه تجاه الأسرة؟ ثم يمزج كل ذلك بكلمات تربوية وإرشادات وتوجيه من الوالدين لتكون بمثابة توصيات يختتم بها الكلام ويعود بعدها كل واحد إلى شأنه.

ثم هبت رياح التغيير، وتبدلت مفاهيم الرباط الأسري، واستولت الآلة والتقنية على المشهد؛ فباتت الأسرة منفصلة بعد اتصال منقطعة بعد تماسك، لم يعد هناك ثوابت حول مفهوم الاجتماع الأسري حول مائدة الطعام كما كان.. بل إن مفهوم الانضباط والالتزام بأوقات محددة للطعام أصبح مصدرًا للانزعاج. فأحد أفراد الأسرة لا يعود من عمله إلا متأخرًا، وثانٍ يأتي مبكرًا، وثالث يأكل في مضجعه، ورابع تجلب له تطبيقات إيصال الطعام فطوره ليلًا وعشاءه نهارًا، أصبح أفراد الأسرة في مجالس تقنية إلكترونية افتراضية بعد أن كانوا في مجالس حقيقية تؤلف بين قلوبهم وتجمع شتات أمرهم، وتحيل أمرهم شورى بينهم، هجمت عليهم وسائل الاتصال دونما استئذان فلم يصمدوا أمام إغراءاتها بدءًا من الوالدين وانتهاء بالأبناء والبنات.

ماذا خسرت الأسرة بعد غياب لمّة الطعام؟ أول الخسائر فقدان ذلك الشعور الجميل المسمى الألفة. خسرت الأسرة التعرف على ما ينقص كل فرد منها، خسرت الأسرة الاحتفال بمكاسب كل واحد منها، خسرت الأسرة توجيه الأبوة وحنان الأمومة، خسرت الأسرة مفهوم الأولويات الحياتية، خسرت الأسرة مفهوم التعاون والمشاركة بروح الفريق، خسرت الأسرة سماع وجهات النظر من عدة عقول بدلًا من عقل واحد، خسرت الأسرة كلمات لا تنسى على شاكلة: هل صليت؟ هل زرت جدك أو جدتك؟ هل أنهيت واجبك الدراسي؟ أنا فخور بك..

خسرت الأسرة النظر إلى وجوه بعضهم البعض واستبدلوا ذلك الجمال بالأشعة الزرقاء blue rays للأجهزة المحمولة والمثبتة والكفيّة التي تمسي وتصبح في أحضانهم. خسروا: وفقك الله ياولدي، وحفظك الله يا بُني، خسروا صباح الخير وتصبح على خير.. خسروا الكثير من أجل القليل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى