المقالات

قراءة في كتاب تاريخ قبائل اليهود الكبرى

الحمد لله الذي منَّ علينا بنعمة العقل لنتفكر وبنعمة البصر لنتأمل وبنعمة السمع لنقارن حتى يصل من يقرأ إلى التفكير الناقد، وهو من مراتب التفكير العُليا التي بها تتحلل الأفكار وتنتقد فتقوم أو تثبت فمتى وصلنا إليها فنحن وصلنا إلى غاية كبرى هي تقرير أحداث التاريخ إلى حد يقترب من الصواب، وربما كان من أكثر الإشكاليات في القراءات الحديثة التي ترفض بعد استخدام التفكير الناقد كل ما لا يمكن قبوله من توهمات خاصة من الذين يكتبون أو يتحدثون في التاريخ بنظرية (ربما) أو ما يجوز لي أن أصفه شخصيًا بنظرية الاحتمالات، وهم بالاختصار يتركون الأبواب مواربة حتى لا يؤخذون بأقوالهم وقد اعتبرت هذه مقدمة موجزة أنفذ إليها؛ كي أكتب كلمتي حول كتاب تاريخ قبائل اليهود الكبرى، والذي صُدر مؤخرًا كبحث توثيقي تحليلي لمؤلفه الأستاذ الدكتور/ عبد السلام بن محسن آل عيسى من مواليد المدينة المنورة ترجع جذوره الأصلية لقبيلة زهران العريقة.
وقد أهداني هذا السفر حول تاريخ اليهود وأصولهم وقبائلهم الكبرى قينقاع والنظير وقريظة، وليس من شك في أن الموضوع قديم جديد، صدرت فيه بحوث ودراسات اختلفت في تناولها وطرحها بين المتوسع والمحدود وبين المبالغ والموضوعي؛ وذلك كان بأسباب الموضوع نفسه فهو من الموضوعات البعيدة تاريخيًا التي اضطربت فيها الأخبار بل وتضاربت وتعارضت وهذ أمر طبيعي يحتاج تفسيره إلى مطولة ليس لها نصيب من كتابتنا الآن، وقد قرأت خطة دراسة الكتاب ومنهاجيتها الواضحة والمركزة من صاحب الكتاب وعن الأسلوبية فهي سلسة واضحة المعاني لا تحتاج إلى جهد، وأظن أنه قد كان في موضع الوسط وليس في موضع المقرر، وهذه حرفية الباحث فهو لا يقرر شيئًا بل يطرح كل الأخبار الواردة قوية ثابتة كانت أو ضعيفة موضوعة، ويترك الساحة للقارئ يقرر بنفسه، وهذا من الأساليب الرصينة عند أصحابها فلا يكاد يجزم بشيء بل يضعك عل المحك تستخلص منه الرحيق ما شئت فربما لا تحتاج لقراءة كتابه كله كي تقرظه أو تمدحه، وقد استمر الكاتب في تركيزه لا يسهب إلا إذا احتاجت إليه مسألة الطرح وينقسم الكتاب إلى فصلين احتويا عددًا ليس بالقليل الجزئيات والعناوين متضمنة معلومات تُحفز القارئ وتثير الاطلاع في كتابه؛ نظرًا منه لرغبة في عدم الخوض في جدل لا طائل من ورائه غير ضياع الوقت.
ذلك الكتاب الذي بين يدي ليس كبقية كتب السير والتاريخ التي ألفت ودارت من قريب أو بعيد حول هذا الموضوع تاريخ القبائل اليهودية في المدينة المنورة، بل هو في الحقيقة لكتاب متميز، ويعد مختصرًا وملخصًا أقل ما يُقال فيه أنه تعتريه دعوة غير مباشرة للقراء الذين يقرؤون قراءة حرة مناسبة في غير ملل وبدون توجهات يحتوي السفر الذي نحن بصدده فصلين كبيرين الأول والثاني يحتوي كل منهما على عدد مما سماه المؤلف المطالب بطريقة واعية وهادفة.
الفصل الأول يُعرض فيه تاريخ قبائل اليهود في المدينة قبل الإسلام، وضمنه أربعة مباحث منها: أصول وأنساب قبائل اليهود وتاريخ انتقالها إلى المدينة ثم عرض المجتمع اليهودي في المدينة ثم علاقة قبائل اليهود بالعرب في المدينة قبل الإسلام، وجدير بالذكر أنه أخذ ما بناه مما هو موجود لديه من مراجع؛ حيث اعتمد على ما ذكرته بعض المصادر مثل الأغاني والدرة الثمينة والمغازي والكثير من المصادر وأقول الرواة فيهم وآراء بعض المستشرقين مثل: ولفنسون ومرجيلوث الذين اهتموا بدراسة علوم الشرق والجزيرة العربية.
ولعل الباحث تحير لقلة المصادر ـ حتى الحديثة ـ التي تناولت تاريخ اليهود في جزيرة العرب، منها وعلى أرجح ما ذكر أن قدومهم كان في القرنين الأول والثاني (ق.م) على أصح الأقوال.
كما أن اختيار اليهود لجزيرة العرب ذكر فيه عددًا من الأسباب المختلفة على الرغم من أنها كانت امتدادًا طبيعيًا لنزوحهم من الشام بعد المذبحة التي قام بها تيطس 70م بأسباب ثورتهم في بلاد الشام، ويعتبر نزوحهم لأسباب كثيرة أهم سببين هما الهروب من اضطهاد الرومان ومعرفتهم بقرب مبعث نبي العالمين في جزيرة العرب؛ فأرادوا بذلك حضور الحدث الجلل لأنه كان لديهم تشوف وتربص بالغين لمعاصرة أحداث مبعث نبي الأمة، ثم ذكر منازل قبائل اليهود بالمدينة ووضح ببعض من التفصيل طبيعة المجتمع اليهودي في المدينة ومظاهر العادات والتقاليد والتفصيلات التي تخص النواحي الدينية والعلمية وحتى العسكرية ثم دار حول مساكنهم والآطام والحوائط والأقوال في أنسابهم والمواقع التي نزلوا فيها حول المدينة وتقارب السكنى من بعضهم البعض، وما صار في الأحلاف التي قامت بينهم وبين قبائل العرب (الأوس والخزرج)، وما حدث من اندماج ومصاهرة بينهم إضافة إلى المعاملات التجارية والاقتصادية التي قامت بطبيعة الحال بينهم وبين سكان المدينة مرورًا بالتأثير الواضح على العرب والاستفادة من خبرات اليهود في الزراعة والتجارة ـ حيث كان لهم سوق يسمي قينقاع وقيل “حباشة”، وهي على غرار سوق حباشة التي في أوصام وادي قنونا من ديار بارق وهذه معلومة ـ كان من الأجدرـ أن تأخذ مساحة مناسبة من البحث للتوضيح وإزالة اللبس الوقع في تشابه اسم السوقين؛ إضافة إلى كونهم أهل علم وتعليم فكان لهم ما يسمى ببيت المدارس ومسجد لبني قريظة، ومن مظاهر هذا التأثير أن وصل الأمر لاعتناق بعض العرب لديانة اليهود وعلى العكس تأثر بعض اليهود بديانات العرب؛ حيث أدى ذلك إلى قوة الاندماج بين الطرفين.
وناقش المؤلف في الفصل الثاني علاقة اليهود بالعرب في المدينة بعد مجيء الإسلام ويشمل مبحثين هما العلاقة بين قبائل اليهود والمسلمين ثم غدرهم ونقض عهودهم وغزو النبي لهم وإجلائهم، وبفور بعث النبي وما نما إليه من علم الله بإشكاليتهم وطبائعهم وبما اختص به صلى الله عليه وسلم من الفراسة كاتبهم وعاهدهم لأنه علم وأحس بظلمهم وبغيهم وحسدهم وبقوة الحياة في ذاتها أباح الإسلام الزواج من الكتابيات كما أباح طعامهم؛ لأنه دين رحمة ونبي رحمة فتزوج أم المؤمنين صفية بنت حيي بن أخطب وامتدادًا لعالمية الإسلام أذن النبي بمعرفة علم أهل الكتاب إلا أن الأمر الثابت الذي لا خلاف حوله هو خيانة عهدهم وغدرهم، وإثارة الفتن وتأليب الكفار عليهم، ومن ثم اضطر النبي إلى معاقبتهم وقتل رؤوس الكفر والطغيان منهم وإجلائهم وطردهم من المدينة؛ فلم يكن طردًا أو إجلاء إلا بأسباب منهم، كما فعل بنو النضير أن عزموا على قتل النبي فأجلاهم بعد غزوة أحد كما أجلى بني قينقاع بعد تحالفهم مع قريش ضد خُزاعة وأجلى بني قريظة بعد نقضهم العهد بتحريض من بني النضير، وكتب الله أن تكون أموالهم وأولادهم ودورهم غنيمة للمسلمين كما تناولتها سورة الأحزاب والحشر وغيرها من سور القرآن الكريم.
وختامًا.. فهو مصدر موثوق وكتاب يستحق القراءة والاطلاع كما يُعد إضافة إلى المكتبة العربية في مجال تاريخ قبائل اليهود؛ فكل الشكر والتقدير لكاتبه، وأسأل الله أن ينفع به وبعلمه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى