الأحداث التي تعيشها المنطقة تتطلب منَّا التبصر لرؤية الحقيقة واستخدام العقل وعدم الالتفات للمشاعر التي يتقن البعض اللعب على أوتارها مستخدمين (الدين) درعًا يستترون خلفه.
خلال السنوات الماضية، حرص الكيان الصهيوني على عقد اتفاقيات التطبيع مع بعض الدول العربية، لكنه كان أكثر حرصًا على أن تكون السعودية من تلك الدول لما لها من وزن على المستويين العربي والإسلامي! وبمجرد أن ظهرت على السطح بوادر انفراج التطبيع (السياسي) مع السعودية حتى تسابق نتنياهو وغيره من المسؤولين والإعلاميين الصهيونيين للحديث بارتياح عن قُرب السلام مع السعودية، وللدلالة على جدية المشروع عينت السعودية للمرة الأولى منذ 1967 سفيرًا لها (غير مقيم) في فلسطين والذي أكد موقف السعودية من القضية الفلسطينية على أساس “فرض الشرعية الدولية وحل الدولتين”، وأن مبادرة السلام العربية سوف تكون ركنًا أساسيًا، في أي اتفاق سلام مستقبلي مع إسرائيل.
في ظل هذه الأجواء الإيجابية عن السلام في المنطقة وإمكانية تحسين أوضاع الشعب الفلسطيني، فوجئ العالم بما حدث في غزة من مغامرة غير محسوبة العواقب، حيث قامت حماس (دون أن تنتظر نتائج المبادرة السعودية ودون تنسيق مسبق مع الحكومات العربية وأولها السلطة الفلسطينية) بعمليات عسكرية داخل المستوطنات المحيطة بقطاع غزة (ما يسمى غلاف غزة)، هذه العمليات العسكرية كانت بمثابة طوق النجاة للكيان الصهيوني من الضغط الدولي جراء موقفه الرافض للمبادرة السعودية، وأعطى ذلك الهجوم تصريحًا مفتوحًا للكيان الصهيوني لتدمير قطاع غزة وقتل وتشريد مئات الآلاف من الغزويين!
منذ الساعات الأولى وبعدما انتشر مقطع (لبعض) مقاتلي حماس وهم يمسكون بامرأة ويرددون على جسدها العاري (الله أكبر) في تصرف يرفضه (كل) مسلم! تأكدت وقتها أن حماس خسرت كل شيء بخسارتها للمعركة الإعلامية! وبعدها تسابق نتنياهو وكثير غيره من مسؤولي وإعلامي الكيان الصهيوني للحديث عن وحشية مقاتلي حماس وأنهم مثل تنظيم داعش الإرهابي (صناعة الغرب) وأنهم يقطعون الرؤوس، ويحرقون الأسرى ويمثلون بالجثث (حسب الرواية اليهودية)، وخرج أحد أعضاء الليكود في قناة سكاي نيوز عربية قائلًا: كيف تريدوننا أن نعيش بجوارهم (يقصد حماس)؟ ليسوا أهلًا للسلام! لو أرادوا السلام لسارعنا بتنفيذ المبادرة من الغد!
ساذج من يصدق أن الكيان الصهيوني (فوجئ) بهذه العمليات وهذا الاختراق (رغم التحذيرات من جهاز مخابرات عربي)! ليس تضخيمًا للآلة العسكرية وقدرات الكيان الصهيوني، بل قراءة للواقع ومعرفة بالعقلية اليهودية التي تقتل أتباعها ثم تبكي عليهم وقد تلقي بهم في أيادي أعدائها ثم تستميت لإنقاذهم حتى تجني أكبر قدر من الأرباح المادية والمعنوية، قال تعالى عنهم: (ثُمَّ أَنتُمْ هَٰؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِن يَأْتُوكُمْ أُسَارَىٰ تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ ۚ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ) (البقرة: ٨٥)
حماس لم تهتم لحياة الغزويين، وربما تم استدراجهم، بل ربما عرفوا أنه لن يكون لهم مكان في المرحلة المقبلة بعد التطبيع، فقرروا تنفيذ سياسة الأرض المحروقة. العقل (وليس العاطفة والمشاعر) يجعلنا نتساءل: هل فكر قادة حماس ما هي الإمكانيات المتاحة لديهم؟ هل لديهم مخزون استراتيجي (مؤونة ومواد طبية …إلخ) لمواجهة الحصار المتوقع عليهم؟ ما هي خططهم لحماية المدنيين من صواريخ وطائرات العدو؟ كيف سيدافعون عن المواقع الحيوية؟ هل لديهم ما يكفي من الوقود لتوليد الكهرباء لمدة شهر على أقل تقدير؟ وبكل أسف، خلال أيام سقطت كل مقومات الحياة في غزة وتحول القطاع إلى مكان من القرون الماضية خلال أيام فقط! إذا لم يكن هذا انتحارًا جماعيًا؛ فما هو الانتحار؟
لا زال البعض يتحدث عن الحرب وكأنها على ظهر الخيل وبالسيف والدرع! بينما صاروخ واحد من (كارولينا الشمالية في أمريكا) قد يفتك بفريق كامل وليس لواء.
*مقالي ليس تثبيطًا للهمم واستسلامًا بل لغة العقل والحكمة*. العرب يعيشون واحدة من أسوأ فتراتهم من الضعف والتفرق والتشرذم، لهذا ليس الآن زمن العنتريات، ولا بد من الحكمة لحماية دماء المواطنين في كل بلد عربي بدلًا من فرد العضلات الذي قد يزيد الأمور سوءًا. أما تعلمنا من عنتريات مضت؟ أما تعلمنا كيف يفكر الآخرون؟ كيف ينصبون شراكهم ويستدرجون بعض القادة والحكومات حتى يقدموا لهم المبررات لشن العدوان عليهم وتغيير الحقائق وتشويه الواقع الفعلي؟
في يونيو 1967 كان التهديد “بكسر الرقبة في العقبة” وكانت النتيجة احتلال سيناء والضفة الغربية وقطاع غزة والجولان! في أبريل 1990 توعد زعيم آخرٌ بأنه سوف يحرق نصف إسرائيل! فاستدرجوه إلى مغامرة أغسطس 1990م والنتيجة احتلال وفوضى العراق (ثم الانتقال إلى مرحلة التقسيم) وفتن طائفية وجماعات إرهابية لا علاقة لها بالإسلام والمسلمين.
والآن، بعد خراب غزة وبعد تصرف حماس (الفردي)، ترتفع الأصوات مطالبة بتدخل مصر من الجهة الغربية والأردن من الجهة الشرقية وتنادي السعودية بقطع النفط عن الغرب! كل هذا العبث يؤكد أن حماس وكأنها سعت لبعثرة أوراق المنطقة وجر الدول المجاورة للحرب، وبدأت تظهر بعض الحقائق المخفية ولماذا ترك الكيان الصهيوني بعض أفراد حماس يعبرون ويعبثون في المستوطنات، وبدأ الحديث عن هجوم بري قادم وعلى المدنيين من أهل غزة الخروج إلى مصر! يريدون تهجير أهل غزة وترحيلهم إلى سيناء لتكون وطنًا بديلًا لهم (لفترة ما)، وما أشبه الليلة بالبارحة حين تم ترحيل أهل فلسطين صوب الأردن ولبنان! فما هو الدور الحقيقي لحماس؟
خاتمة:
هل مواجهة حماس تتطلب أن ترسل أمريكا حاملة طائرات وجنود إلى البحر الأبيض المتوسط؟ لماذا هدد وزير خارجية أمريكا (كل) الدول التي (قد) تفكر في محاربة إسرائيل؟ ما الرابط بين حماية إسرائيل كما تعهد وزير الدفاع الأمريكي وبين حماية أوكرانيا في حربها مع روسيا؟ ثم يخرج علينا من يقول بأن التحالف الأمريكي والغربي مع الكيان الصهيوني ضد حماس يذكرنا بتحالف (يهود المدينة) مع (مشركي مكة) في (غزوة الأحزاب) ضد المسلمين! نسي أن (محمدًا صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم) كانوا على قلب رجل واحد، بينما (الحمساوي) هناك لا يستمع من (الفتحاوي) وكلاهما قد لا يتفقان مع (الجهادي) أو (الشعبي)!