البلاغة والفصاحة في الكلام العربي ؛ نهران يفيضان عذوبةً وصفاءً؛ وهما يسيران جنباً إلى جنب في فلكٍ واحد؛
ولست أغالي إذا قلتُ: هما (كجناحيْ طائر)؛ على مستوياتٍ عدِّة؛منها: وضوح الألفاظ ؛وسلاستها؛ وقدرتها على تأدية المعاني الحبيسة في مسارب النفس الإنسانية؛وما إلى ذلك.
يقول أبو القاسم الآمدي تأكيداً لما ذكرت: «الفصاحة صنوٌ للبلاغة».
وفي الصَّعيد ذاتِه، ذهب بعض أساطين العربية ؛كالجرجاني وغيره؛ إلى أنَّ الفصاحة لا تقتصر على الألفاظ ؛بل هي في المعاني كذلك حيث يقول في إحدى لوامعه متسائلاً: «وهل تجدُ أحداً يقولُ:هذه اللفظةُ فصيحةٌ؛ إلاَّ وهو يعتبرُ مكانَها منَ النظم؛ وحسنَ مُلائمةِ معناها لمعنى جاراتِها؛وفضلَ مؤانَستها لأخواتها ؟!
وهل قالوا: لفظةٌ متمكَّنةٌ ومقبولةٌ وفي خلافهِ: قلقةٌ ونابيةٌ ومستكرهةٌ، إلا وغرضُهم أن يُعبروا بالتمكُّن عن حسنِ الاتفاقِ بينَ هذه وتلك من جهةِ معناهُما، وبالقلقِ والنُبَّو عن سوء التلاؤم»؟!
وأمام ذينك النهرين؛ نهري(الفصاحة والبلاغة)؛شبَّ الاختلاف بينهم؛حول قصايا شتَّى؛تمحورتْ حول دلالتهما؛
ومن له السبْق على الآخر؟!
و أيَّهما أعمّ وأشمل من “صِنْوه”.؟!
وقد بسط الحديث في تلك القضية بسطاً جيَّداً في مقالة طويلة له؛الباحث :محمد أبوالفتوح غنيم؛ أقتطف منها قوله:«ولما رأيتُ أنَّ العلماء ؛أجمع أكثرهم على أن الفصاحة والبلاغة مترادفتان؛وأنهما يفيدان وضوح الألفاظ وسلاستها وتبليغها المعنى، لم تقرّ عيني بهذا القول على إطلاقه، بل في ظني أن هناك فرق خفي، وهو أن البلاغة تكمن في أسلوب الكلام وطرحه، فالمعنى في الفصاحة والبلاغة موجود كما قال العلماء؛ لكنَّ الفارق في أن الفصاحة دون البلاغة من حيث الأسلوب؛فمن مقتضيات البلاغة: وضوح الدَّلالة؛ وصواب الإِشارة؛ وحسن التَّرتيب والنّظام والإبداع في طريقةِ التَّشبيهِ والتَّمثيل والإجمال،بينما الفصاحة معنية أكثر باستقامة الكلام نحواً وصرفاً؛ وسلاسته ؛وخلوه من التنافر والاستهجان مع صحة معناه.».
والذي يعنيني في هذا المقام بالدرجة الأولى هو التنويه بذلك المصطلح البرَّاق المبتكر الذي استهللت به المقالة ؛والإشارة إلى بعض الشواهد المؤكدة صدق نظرتهم ؛وانفساحها إلى آفاق بعيدة؛من البيان والتجلِّي ؛في مضمار لغة الضاد.
ولكم سرَّني شاعر العربية الكبير “الشريف الرضي” في كتابه (المجازات النبوية )؛أثناء تناوله ذلك العنوان اللطيف المُبهر ؛ونعته إياه بقوله الدقيق ؛الموجز «إنَّه: “عبارة عن حذف شيء من لوازم الكلام ،وثوقاً بمعرفة السامع به».
ثم تابع في مقام الإشادة قائلاً:
«وهذا الفن من مستخرجات الشيخ أبي الفتح عثمان بن جنِّي»
ويؤكد ذلك بقوله : «كان شيخنا أبو الفتح يسمي هذا الجنس “شجاعة الفصاحة”, لأنَّ الفصيح لا يكاد يستعمله إلا وفصاحته جريئة الجنان غزيرة المواد”. !
ويتابع ضرب الأمثلة والشواهد ،وهذا بعض منها :
*ومثاله قوله تعالى (حتى توارت بالحجاب) أي الشمس ولم يجر لها ذكر.
*وقوله :(ولو دُخلتْ عليهم من أقطارها) أي المدينة, ولم يجر لها ذكر.
*وقوله جل شأنه (إذا بلغت التراقي)
أي الروح, ولم يجر لها ذكر.
*وقوله :(إنا أنزلناه في ليلة القدر)
أي القرآن, ولم يجر له ذكر.
*وقول نبيه عليه السلام وقد تذاكر الناس عنده الطاعون وانتشاره في الأمصار والأرياف: (أرجو أن لا يطلع علينا نقابُها) .
والنقاب جمع نقْب, وهو الطريق في الجبل, يريد “نقاب المدينة”؛ ولم يجر لها ذكر.
لكنه أقام علم المخاطبين بها مقام تصريحه بذكرها.!
*ومن الشعر قول حاتم الطائي:
لعمرك ما يغني الثراءُ عن الفتى
إذا حشرجتْ يوماً وضاق بها الصدر
يريد النفس.
وقد أورد صاحب الكشاف الإمام الزمخشري هذا البيت عند تفسير قوله تعالى: (كَلَّا إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ)؛ على إضمار الروح قبل الذكر لدلالة الكلام عليه، كما أضمرها الشاعر في “حشرجت”.
*ومن ذلك قول العباس بن عبد المطلب يمدح النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
من قبلها طبت في الظلال وفي مستودع حيث يخصف الورق !
أي في ظلال الجنة.
أراد أنه كان طيباً في صلب آدم عليه السلام.
*وقوله: من قبلها, أي من قبل الأرض, ومثل ذلك في كلامهم كثير.!
ومثل ذاك ماورد عند ابن معصوم المدني في بديعيته الشهيرة :
ساوت شجاعته فيهم فصاحته
فردهم معجزا بالكلم والكلم !
والشاهد هنا في قوله (ردَّهم) :
يريد العرب الذين لم يؤمنوا به, ولم يجر لهم ذكر, لكنه أقام معرفة السامع مقام التصريح بذكرهم .
والبديعية المشار إليها تعد من عيون الشعر العربي في مدح رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم وهي من المطولات ؛ على غرار قصيدتي (البردة ونهجها المعروفتين)
ومطلعها :
حسنُ اِبتدائي بذكري جيرةَ الحرم
له بَراعةُ شَوقٍ تستهلُّ دمي!
دَعني وعُج بي بالرسوم ودَع
مركَّب الجهل واِعقل مطلقَ الرُسُمِ!
بانوا فَهانَ دَمي عندي فَها نَدمي
على ملفَّق صَبري بَعد بُعدهمِ!
وَذيَّل الدمُ دَمعي يوم فرَّقهم
وَراح حبّي بلبّي لاحقاً بهمِ!
كَم عاذِلٍ عادِلٍ عنهم يصحِّف لي
ما حرَّفته وشاةُ الظُلم والظُلَمِ!
ما زِلتُ في حرق منهم وفي حزَن
مشوَّشَ الفكر من خَصمي ومن حكمي!
ظنّوا سلوّيَ إِذ ضنّوا فما لفظوا
بذكر أُنسٍ مضى للقَلب في إِضمِ!
تسميةابن جني لهذا الفن مع إشادة الشريف بها ،غاية في الدقة وأناقة الذوق ،فوق أنها منسجمة تماماً مع ما درجنا على معرفته في الدرس البلاغي، تحت إطار(علم المعاني )بمواطن حذف (المسند والمسند إليه) وآثارها البيانية.
ابن جني والشريف الرضي وأضرابهما من أعلام تراثنا المجيد ؛كانوا إذن أبعد مرمى ،وألطف تناولاً ،من الذين غلبت الصرامة والفجاجة على طبيعة تعاملهم مع الفنون الأدبية ؛فلذلك عدُّوها “من سقط المتاع”؛وأنحوا باللائمة
ومنهم منْ كبَّل البلاغة العربية وأدبنا العربي المتربع على عرش البيان؛واعتدى على الموروثات- على سعتها وتراحبها-؛بمصطلحات جافة عقيمة مضللة ؛ما أنزل اللهُ بها من سلطان؛وجنوا جناياتٍ يطول الحديث عنها ؛حتى صحَّ فيهم قول الشاعر:
تراوحَ أمرُنا ما بين غالٍ
ورجْعيٍّ يرى في البسْطِ قَبْضا!
والقضية طويلة شائكة؛والله من وراء القصد.