حينما نتحدث عن الدبلوماسية Diplomacy يقفز للذهن مباشرة العمل السياسي والاتصالي الذي تنتهجه الدول من خلال وزارات الخارجية لديها والسفراء والقناصل المعتمدين لدى الدول الصديقة، والتي تقوم عادة بنقل وتنسيق وتنظيم التواصل بين بلدانهم وتلك الدول.
حينها يمكن الحديث عن دبلوماسية كلاسيكية تحرص على الاهتمام بالمصالح السياسية والاقتصادية والعسكرية بين بلدين، وتفعيل استخدامها وتوظيفها بما يضمن الاستقلالية التامة لكل بلد وفق مواثيق وأحكام واتفاقيات معلومة للجانبين.
وفي السنين المتأخرة ظهر مفهوم ناعم للعمل الدبلوماسي سُمي بـ”الدبلوماسية الثقافية” وهو المصطلح الذي تم التعارف على وصفه بـ”القوة الناعمة” للدول والكيانات. هذا المفهوم كما كتب عنه السياسي “جوزيف ناي”، وعرفه بأنه “القوة الناعمة”، هو “القدرة على الحصول على ما تريد بالجذب بدلًا من الإكراه أو الدفع، وهي تنشأ من ثقافة البلد، ومُثله السياسية وسياساته، وبداية النظر إلى “الثقافة” كواحدة من محدَّدات السياسة الخارجية لأي بلد”.
إذًا ووفقًا لهذا التعريف لجوزيف ناي، فإن الدبلوماسية الثقافية أو القوة الناعمة تعني استبدال الماكينة العسكرية والمقدرات الاقتصادية والبراعة السياسية وهي جميعًا قوى صلبة، ببدائل أكثر نعومة مثل: ثقافة الشعوب، وفلكلوراتها، وأساليب عيشها، ووجهات نظرها المجتمعية، وممارساتها الحياتية في التعليم والفن والمأكل والمشرب وغيرها واستخدام كل ذلك للتأثير على الشعوب الأخرى في تمرير سياساتها وإيصال رسائلها المختلفة.
لذلك فإن الدول التي انتهجت مسار الدبلوماسية الثقافية نجحت تمامًا في التأثير على الآخرين فيما يمكن وصفه بـ”دبلوماسية الشعوب”؛ وعليه فلن يكون من المستغرب رواج ثقاقة البيتزا الإيطالية والراب الأمريكي والإتيكيت الفرنسي والبروتوكول الإنجليزي والصلابة الألمانية والدقة اليابانية كقوى ناعمة أثرت بشكل أو بآخر في حياة كثير من شعوب الأرض.
كذلك فإن الاعتزاز بالدراسة عالميًا في جامعات بعينها أو العمل في شركات بذاتها أو الانضمام لمؤسسات ثقافية في مراكز ومعاهد ومؤسسات خارج بلد المنشأ لا يمكن اعتباره سوى نوع من التأثر الشديد بثقافة تلك البلدان، وتبني ما ينتج عنها رؤى وأفكار واعتباره النموذج الأمثل model practice الذي يضع الخارطة المناسبة لمعيشة الناس وتعايشهم.
وللأمانة العلمية، فإن الدول تتمايز وتتميز بمدى قدرتها على نشر دبلوماسيتها الثقافية في أنحاء المعمورة؛ لذلك فإن الصيحات والموضات التي تستحوذ على أفكار شعوب الأرض، وتنتشر من وقت لآخر ليست سوى نتاج لعمل دؤوب وذكي من قبل المنتمين لتلك الثقافات الذين استطاعوا بفهم حاد أن يسيطروا على الفكر الثقافي للآخرين بأفضل الطرق الممكنة؛ ليجعلوا من ثقافتهم خير رسول وسفير لهم خارج حدودهم الجغرافية.
ولأن السعودية اليوم تنتهج فكرًا ثقافيًا طموحًا يؤمن بمتغيرات العصر من خلال برنامج الرؤية الخاص بها وبممارسات عملية من وزارة الثقافة وغيرها من الجهات ذات العلاقة؛ فإنها عمدت وبقوة للتركيز على مواطن القوى الناعمة لديها مثل ثقافة العربي ابن الصحراء بما يحمله من صفات: الجود والشجاعة والنخوة وحسن الوفادة والشهامة والشاعرية، وكذلك استثمرت فيما يحيط بهذه الثقافة من مدعمات مثل: القهوة السعودية، والتمور المحلية، والثقافة الكروية، والمواقع التاريخية ذات الارتباط الفكري، والفلكلورات الشعبية المتنوعة، وصرفت الكثير من الجهد والمال في إيصال كل ذلك من خلال تنظيم ملتقيات ومؤتمرات وتجمعات محلية ودولية؛ لتبرز هذه القوى التي بدأت تظهر بوادرها على خارطة الدبلوماسية الثقافية اليوم.
إن المتأمل في مفاهيم الدبلوماسية الثقافية يدرك بأقل جهد أن اجتماع الدبلوماسية والثقافة صنع مالم تصنعه الجيوش والمالييون والسياسيون في كثير من الحالات، ويدرك في ذات الوقت أن هذه الدبلوماسية الناعمة تدخل البيوت وقبلها القلوب طوعًا لا كرهًا، وهو الشرط الموضوعي لانتشارها وقبولها بل وتبنيها لذلك؛ فإن الاستثمار فيها وتعاون شرائح المجتمع المختلفة في إبرازها أمر مربح، والعمل على نشرها يعد مجزيًا، والبقاء لها وبها استثمار مضمون وجهد مشكور ولو بعد حين.