هناك قناعة لدى الكثير من الباحثين بأن القوة الصلبة، متمثلة في القوة العسكرية وما شابهها، تبقى مُكلفة ومدمرة ولم تعد من الطرق الناجحة في تحقيق الأهداف والمصالح الإستراتيجية للدول، وهو ما يطرح أهمية استحضار آليات القوة الناعمة التي تقوم على الثقافة والإقناع بدلًا من الضغط والإكراه. ومفهوم القوة الناعمة من المفاهيم الحديثة نسبيًا في العلاقات الدولية، وقد يتطور مفهوم القوة كثيرًا بنمو الدول واختلاف أهدافها وإمكانياتها من المفهوم التقليدي، والمقصود به القوة العسكرية إلى نوع ومستويات أخرى من القوة.. ومنها مصطلح القوة الناعمة، والذي ابتكره البروفيسور (جوزيف ناي) الأستاذ في جامعة هارفرد والمساعد السابق لوزير الدفاع الأمريكي للشؤون الدولية بعد انتهاء الحرب الباردة. عرَّف (جوزيف ناي) مصطلح القوة الناعمة في كتابه [القوة الناعمة: وسيلة النجاح في السياسات الدولية]، قائلًا: «إنها القدرة على الجذب لا عن طريق الإرغام والتهديد العسكري، والضغط الاقتصادي، ولا عن طريق تقديم الأموال لشراء التأييد والموالاة، كما كان يجري في الإستراتيجيات التقليدية القديمة، بل عن طريق الجاذبية، وجعل الآخرين يريدون ما تريد». وفي الوقت الذي استبعد (جوزيف ناي) من تعريفه للقوة الناعمة الوسائل الاقتصادية، فقد ذكر «كاتبي زانق» بأن القوة الناعمة تؤكد على استخدام القوة الاقتصادية والدعاية، ومن ناحية القوة الاقتصادية، أضاف: «إنها قوة ناعمة، حيث قد تقدم الدولة نموذجًا تنمويًا جاذبًا للدول الأخرى، كما في حالة اليابان وكوريا والصين بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية». لقد أدركت الصين أهمية القوة الناعمة المستمدة عبر الحضارة والثقافة، وقد عرفتها جيدًا دول أخرى مثل: الهند وتركيا واليونان وبريطانيا، وتمكنت من تحقيق الكثير من الفوائد بأقل التكاليف وبعوائد عظيمة انعكست على الصورة الذهنية لهذه الدول لدى الملايين من الناس في الخارج. كذلك البرازيل والمكسيك وكوريا الجنوبية واليابان قامت بتسخير البرامج والمبادرات لتسخير السياحة والثقافة من تلفزيون ومسرح ودور سينما؛ لترويج ثقافتها في العالم وحققت بذلك عوائد اقتصادية كبيرة. إن المنح الثقافية التي تقدمها الدول للطلاب الأجانب للدراسة في جامعاتها هي قوة ناعمة، وتعلُّق الناس حول العالم بالسينما والوجبات السريعة الأمريكية هو قوة ناعمة، والدقة المعروفة عن المجتمع السويسري هي قوة ناعمة، وجودة الصناعات الألمانية هو كذلك قوة ناعمة، وحتى الأماكن السياحية في بعض البلدان تعتبر قوة ناعمة. وبالنسبة لعالمنا العربي لم يحاول استغلال ما لديه من إرث ثقافي واستخدامه كقوة ناعمة، مع العلم أنه يملك إرثًا حضاريًا وثقافيًا متراكمًا من مئات السنين في الكثير من المواقع الجغرافية، ولو أنه كانت هناك في السابق بعض المحاولات الخجولة من العراق والشام والمغرب ومصر. ومن الأمثلة على تأثير القوة الناعمة، دخول الإسلام في الكثير من البلدان بسبب جاذبيته الذاتية التي تمثلت في إرثه الثقافي، وحسن تعامل المهاجرين الأوائل إلى تلك البلدان.
0