النصّ الشعري:
لا البعد يُنْسي .. ولا طولُ الغياب به
تُشفى قلوبٌ بنار الشوق تحترق ُ!
نشتاق .. نشتاق .. حتى تستبدَّ بنا
مواجعٌ لفناء الصبر تستبقُ !
نمضي و نملأ بالذكرى حقائبنا
و نُمطرُ الأرض دمعا حين نفترقُ!
نسير بالجرح لا نلوي على أحدٍ
والبوح فينا بطوق البعد يختنق !
حزن المواويل يعلو في دواخلنا
يدك ُّماكان من صمتٍ ويخترق !
ونسأل الدهر عنهم .. أين وجهتهم
وأي بابٍ إلى الأحلام قد طرقوا!
نخشى بأن تنطق الأيام قائلةً
قبل الوصول إلى أحلامهم ..غرقوا!
_______________________
– عنوان القصيدة؛وظلالها الموحية:
من مقتضيات العمل الفني اللازمة ؛محاولة كشف ملابسات العنوان الذي ارتآه الشاعر أو الشاعرة؛باعتباره المدخل الأساسي؛أوالعتبة كما يحلو لبعض النقاد تسميتها ؛ إلى استكناه التجربة الشعريَّة ؛ورصْد ملامحها؛والتقاط خيوطها؛والوصول إلى أغوارها؛وما انطوت عليه من إيحاءات؛وجماليَّات.
إنَّ محاولة اكتشاف أسرار نص أدبي ؛هي أشبه ماتكون بمن يزور بلداً لأول وهلة؛حيث تتلقفه أمام بوَّابتها سلسلةٌ من المخاوف الغائمة؛وتكبل مسارَه مشاعر شتى؛من المحاذير؛ خشية أن تزلّ به القدم ؛حتى إذا اطمأنَّت النفس ؛واستيقظت قواها الفكرية وما إليه؛تلاشت تلك المخاوف؛أوانحسرتْ قليلاً؛إلى مما ليس منه بدُّ.
ولذلك رأيت من الأهمية بمكان العودة إلى معاجم اللغة؛لاستخلاص دلالات الألفاظ المستخدمة ؛وشبكة العلاقات القائمة بينها في البناء الشعري المستقلّ؛في حدود الوِسع والطَّاقة.
وكما هو واضح للعيان أنَّ الشاعرة استحسنت وارتأتْ تركيب(طوق البعد) أن تجعله عنواناً لنصِّها ؛فما علاقة الطوق بالبعد؟!وماذا تودُّ الشاعرة أن تترجم لنا في هذه السيمفونية المترعة بالشجن؟
هذا ما سنحاول تتبعه في هذه القراءة..
الطَّوْق في المعجمات العربية هو كلُ شيء مستدير؛وكل ما أحاط بشيءٍ خِلْقَةً أَو صنعةً سمَّوه طوقاً؛كطوقِ الحَمَام،وكطوق الذَّهب والفِضَّة؛حين يُحيطُ بعنق المليحة الحسناء.
ومنه قيل للحمامة:ذات الطَّوْق .
والجمع : أَطواقٌ.
وتأتي كلمة طوق بمعنى:القدرة أو الاستطاعة.
وقد ترددت لفظة (طوق)ومشتقاتها على ألسنة الشعراء قديماً وحديثاً؛تارةً مفردة وتارة مضافة:
كقول الشريف الرضي:
أحسد الطوقَ على
جيدك والطوق لِزام!
وابن سهل:
طوقْتَني طوقَ الحمامة ِ منعماً
فنظامُ مدحكَ في فمي تغريدُ !
وكقول الشاعر بدوي الجبل :
أنا أغليتُه بلؤلؤ أشعاري
و طوّقتُ جيده تطويقا!
وقد جمع الشاعر الباخرزي؛في أحد أبياته بين المعنيين المشار إليهما آنفاً حيث قال من قصيدة له:
وأبكي ولا طوقَ لي بالفراقِ
إذا ذاتُ طوقٍ بكت في فنن!
فما الذي ينطوي عليه إذن عنوان قصيدة شاعرتنا؟!
من حيث التركيب اللغوي هو عبارة عن تركيب إضافي (مضاف ومضاف إليه)؛أما لماذا اختارته الشاعرة على وجه التحديد ؛فهذا ماستحاول القراءة جاهدةً تسليط الضوء عليه..
لاريب أنَّ الإحساس بوطأة البعد القاهر؛ومرارة أيامه ولياليه الرتيبة؛ ومايندسُّ في النفس الإنسانية من ألمٍ صاهر؛ومعاناة جسيمة؛وتطلعاتٍ دفينةٍ؛لاتسفر عن شيء ذي بال ؛مما ينقع الغُلَّة؛ أو يبلُّ به الصدى؛ لاريب أنَّ تلك المعاني النفسية وما إليها؛هي التي حدَتْ بالشاعرة إلى خلع صفة الطوق؛ على موضوع الفراق والحرمان وقد أحاطا بها إحاطةَ السِّوار بالمعصم كما يقال في التراث.
وفي البعد المرير؛ وفراق الأحباب والخلَّان؛تستأثر الوحشة بالنفس الإنسانية؛وتطبق على منافذها؛ وتستولى على أحاسيسها؛ لزاماً عليها والحالة هذه أن تستهدي بمصباح الوعي ما أمكن ذلك؛محاولة الخروج من تلك البوتقة إلى الأفق الرَّحيب.
_______________________
– جوُّ النص؛ومحاولة استكشاف بعض أدوات التجربة:
طوَّق البعد إذن شاعرة النص من كلِّ جانب؛ووجدت نفسها في مهبِّ الريح ترزح في متاريسه الغليظة؛فتأججتْ في أعماقها أسئلة منداحة على هيأة موجات متتالية؛فرضتْ عليها أن ترسل أنغام قيثارتها؛على تلك المثابة من الشجن العاصف.
وفي مستهلِّ معزوفتها هذه؛نلاحظ أنَّها عمدت إلى أسلوب التقرير ؛كما لو أنَّها بصدد الاستهداء بأضواء العقلانية الهادئة؛وتنحية صوت العاطفة قليلاً رغم اشتعالها؛أو بتعبير آخر كما لو أنَّها -وقد حدث ماحدث- أن تدلي برؤيتها المستخلصة من تداعيات تلك الأحداث الدامية التي شهدت فصولها بدءاً وختاماً.
فلذلك انطلقت قائلةً:
لا البعد يُنْسي .. ولا طولُ الغياب به
تُشفى قلوبٌ بنار الشوق تحترق ُ!!
هذا الاستهلال كما يلاحظ ؛يتشح بمسحة من حزن شفيف؛ حيث وردت فيه ألفاظ (البعد؛الغياب، نار الشوق) مما دفع الشاعرة وهي في ذروة ألمها إلى أنْ تتخلَّى -عنْ قصدٍ- عمّا يسمى
في القصيدة العربية (بالتصريع )؛الزينة الجمالية المتبعة؛ على أنَّ ذلك لايقدح في تجربتها؛أو يقللّ من حيويتها وإنما مجرد ملمح بارز ؛سيلحظه المتلقي بوضوح..
وتسترسل الشاعرة؛وهي تصغي إلى أصداء تجربتها ؛لتستخلص مفهوماً شديد الحساسية والدِّقَّة؛يتماسّ مع متاعبها ؛شرعتْ في تعميمه بواسطة لجوئها إلى التعبير بصيغة المتكلمين؛الضمير(نا)؛الذي تردد صداه غير مرة.
ومفاد ذلك المفهوم المحتدم في أعماقها أنَّ أزمة البعد الناشيء بين المحبين ؛كبعد الأمكنة ؛وتطاول الأزمنة؛والمسافات ؛لاعلاقة له بطوارئ النسيان؛ الذي يعتري الفكر؛ويصرفه إلى شؤون دنيويةٍ أخرى؛ كما أنَّ طول أمد الغياب؛ وما يتخلله من انتظاراتٍ قلقة؛وأسئلة حائرةٍ ؛تلتحف بها اللحظات الزمنية المعاشة؛ عندما تطوف بنا في أطوارها الدراميّة المختلفة؛لاصلة له بمداواة الجراحات المشتعلة منها والغائرة أو تضميدها إلى أجلٍ قريب؛إذ لايمكن لنا اعتبارذلك التطاهر الشكلاني ترياقاً نافعاً ناجعاً؛نحسم به آثار تلك الرحلة الموَّارة.
ولعلها بتلك النظرة تتساوق مع الشاعر القائل:
إِذا تَناءَتْ بِنا قُلوبٌ
فَلا تَدانَت بِنا دِيارُ!
ولكي تؤكد صدق نظرتها التي انطلقت منها ؛تحيلنا فيما يلي من أبيات إلى مواقف محسوسة مستمدة من واقعها النفسي على الأرجح ؛الذي يتحد مع واقع المحبين أجمعين على ظهر البسيطة ؛آخذةً في الاعتبار أنَّ نزعة الاشتياق المقترنة بلفحات الحنين المتَّقد؛ هي من القواسم الإنسانية المشتركة؛مما سوّغ لها التعبير بصيغة المتكلمين :(نشتاق المؤكدة مرتين)-كما ذكرتُ قبل هُنيهة-؛إلى جانب تأكيد ذلك الإحساس المهيمن على الروح والوجدان عن طريق اللغة الموحية.
وتبعاً لنظرتها الشمولية تلك فإنَّ حرارة الاشتياق التي تجتاحنا-نحن المحبين- في غير هوادة ؛وقد لفَّها منطق النسيان؛ فيما نعتقد؛ تؤول بنا مجرياتُها إلى موجاتٍ غير يسيرة من الآلام والحسرات المتعاقبة؛التي تتضاءل أمامها قُوى الصبر المتين؛التي اعتصمنا بحبالها الوثيقة؛أوزعمنا أنَّها ستمنحنا الصمودعندما نضطر إليه.
فلاحيلة عندئذ سوى المضي في خضم تلك العاصفة الثائرة بقلوبٍ مثخنة ؛وعيونٍ مسهَّدة؛تحت شلَّالات الذكريات المؤرقة؛ومراياها المترعة بالشجن؛ونواقيسها المرنانة ليل نهار.
ولما كانت عاصفة البعد ؛تكاد تقتلع القلوب الولهى اقتلاعاً؛ولاسبيل إلى إيقاف مدِّها الزاحف؛رضخنا لها مكرهين؛و اضطررنا إلى المضي عنها والإعراض قسْراً؛وفي أيدينا راية الاستسلام نلوّح بها؛على سبيل التجلّد أو المكابرة ؛في الدروب الشائكة؛والمنعرجات التي نغذّ السير في دهاليزها المبهمة؛ ولم يبق لنا من حصيلةٍ ملمومة؛سوى (حقائب الذكريات )؛المنصاعة بإرادتنا إلى هدير الأشجان المترامية؛ وزخَّاتها العاتية؛ فإذا هي ملأى بالصورالحيَّة؛ والحكايات المؤرقة؛ واللقاءات الحالمة؛ والمواقف الوجدانية؛الراسخة في ضمائرنا ؛بيدَ أنَّ تلك المشاعر المتباينة؛ لاتتوقف عند هذا الحد ؛بل سيتلو ذلك الغليان دموعٌ مدرارة نسفحها ؛لاتقلّ انهماراً عن مطر السماء .
؛كما في هذا التعبير الآسر:
نمضي و نملأ بالذكرى حقائبنا
و نُمطرُ الأرض دمعا حين نفترقُ!
وتتابع الشاعرة رحلتها التقريرية ؛في إيماءات تشي باللوعة والأسى ؛حيث تتبدى لنا المسيرة على أرض الواقع محفوفة بالتشظِّي وألوان العناء ؛فالجرح الماثل هو زادنا في المسير؛والزهد في الناس قاطبةً وفي سائر الأشياء ملازم لخطواتنا؛ والبوح الوجداني الذي نفيء إليه ؛محاصر بذلك الطوق الجاثم؛بينما تحتشد المواويل الباكية في أعماق نفوسنا المستسرَّة؛فإذا ألان لنا الدهر جانبه ؛ولم يقطِّب حاجبَه؛مؤذناً لنا بسؤاله عن هؤلاء الغُيَّاب؛وماذا فعلت بهم الأيام ؛ من شتات وتشرذم واقع بهم ؛،ألفيناه صامتاً مطرقاً؛متجرداً من مواساتنا؛ونائياً عن مؤازرتنا!
وفي نهاية المطاف؛وفي خضمّ ذلك الجيشان المضطرم ؛تباغتنا المخاوف وتستبدُّ بنا حشودها المدججة ؛وإذ ذاك نقف ذاهلين عن أنفسنا؛ خشية أن يكون طوفان الزمان ؛قذ غيَّبهم إلى الأبد؛أو “مزَّقهم شرَّ ممزَّق”؛ أو أطفأ شموعهم وقناديلهم في قيعان بحاره؛وأسداف ظلماته ؛كلُّ تلك المعاني حملها هذا البوح؛ وفيه نلاحظ أحرف المدّ ؛متناغمة :
نسير بالجرح لا نلوي على أحدٍ
والبوح فينا بطوق البعد يختنق !
حزن المواويل يعلو في دواخلنا
يدك ُّماكان من صمتٍ ويخترق !
ونسأل الدهر عنهم .. أين وجهتهم
وأي بابٍ إلى الأحلام قد طرقوا!
نخشى بأن تنطق الأيام قائلةً
قبل الوصول إلى أحلامهم ..غرقوا!
_______________________
بعض سمات النص وظواهره الفنيَّة:
-اهتمت الشاعرة ببناء قصيدتها على بحر البسيط؛، وهو بحر يستوعب معاني الفراق والتذكر والحرمان؛ فوق أنَّه من البحور الرصينة ؛ذات المكانة العالية في الشعر العربي.
-استهلال الشاعرة نصّها بالنفي جاء متناسباً مع موضوع القصيدة وفكرتها المحورية.
-اعتمدت الشاعرة في صياغة معانيها على الأسلوب الخبري؛باستتثاء البيت السادس الذي جاء إنشائياً؛ومن شأن الأسلوب الخبري إفساح المجال لتجسيم أبعاد المعاناة.
-مراعاة خاصيَّة تكثيف المعاني من حيث الكم العددي ؛إذ لم يقلّ نصها عن العدد سبعة؛الذي يؤهله لاكتساب مسمَّى قصيدة؛جرياً على ما نصَّ عليه نقادنا القُدماء.
كما أنَّ ذلك الالتزام الكمِّي؛ ينبئ عن اقتناع الشاعرة أن المعاني التي اختلجتْ في أعماقها؛بلغت الغاية المنشودة ؛إلى جانب إيمانها أنَّ الشعر في جوهره لمحاتٌ وإشاراتٌ ذكيَّة؛وهي بذلك تحرس لغتها الفنيّة من إشكالية (الحشو).
-ورود الأفعال المضارعة لدى الشاعرة
على نسق واحد؛كما في هذه الإضمامة:
(نشتاق؛ننسى؛نمضي؛نسير؛نمطر؛نخشى؛نسأل؛ نفترق)؛والأفعال:يخترق؛يختنق؛تحترق؛تستبق؛ مما منح التجربة بعداً جمالياًمفصحاً عن إيمانها أنَّ الواقع الحاضر في مخيالها امتدادٌ للماضي.
وفي استخدامها ضمير نا المتكلمين؛
نستشفّ محاولة الشاعرة فك الحصار عن ذَّاتها؛ والذوبان في المحيط العام .
-إحساس الشاعرة بالزمان ؛تجلّى ذلك في عدة إيماءات؛من مثل:”نمضي؛أوان الفُرقة؛مساءلة الدهر؛نطق الأيام”.
-ظاهرة التشخيص الفنّي واضحة في النص؛كالأيام الناطقة؛المواويل الحزينة؛أبواب الأحلام؛ البوح المختنق؛كما يلاحظ في هذه الألفاظ وأمثالها عملية بثِّ الحياة وخلعها عليها؛ فضلاً عن إفادتها من فنّ الاستعارة.
-سلاسة النص الوجداني وانسيابيته وجيشان عاطفة الشاعرة عناصر بارزة كالشمس في وضح النَّهار.
-صدق الشاعرة الفني مع لغتها والولاء لأساليبها النابضة بالحياة من أهمّ العناصر المتوهّجة في النص.
وفي النصّ عناصر أخرى يطول الحديث عنها؛ وبذلك أكتفي ؛ آملاً أن أكون قد حالفني التوفيق في هذه المقاربة والمعايشة الوجدانية ؛
مع عاطر تحاياي لتجربةالشاعرة الكريمة وتميّز صوتها في عالم الإبداع ؛والله الموفِّق.