المقالات

شعر الضيعة

بسم الله والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه..
أولًا العنوان وُضع عن قصد لجلب الانتباه، وقد لا يعرف الكثيرون معنى الضيعة هنا (وهي الشغل). وقد تعني في لهجات أخرى أشياء أخرى، ولكن يعرف جيلي ومن قبلنا، يعلمون أن أهلنا كانوا يقولون معنا ضِيعة أي شغل، وكم سمعناهم يقولون يا فلان ما معك ضِيعة.. وإلا ألمح لك ضِيعة!..
هذا مدخل إلى صلب المقال.
أقول ومن الله العون:
العرب أمة الفصاحة والكلام والشعر، وكانت لهم مفاخر في ذلك لم تكن لغيرهم، فأقاموا له المحافل والأسواق، ووظفوا النقاد والحُفاظ نثرًا وشعرًا، ففن الخطابة والإلقاء لا يقل لذة ومتعة عن الشعر إلا في قضية الغناء. (إن من البيان لسحرًا).
ومن فنون الشعر وأغراضه بفصيحه ونبطه وشعبية فن شعر (الضِيعة)، أو العمل أو الشغل، سمِّه ما شئت. وهذا الشعر إما أن يكون من البحور الطويلة والتي تحتاج إلى حنجرة قادرة على الغناء طويلًا ومن أشهر ألوانه الحِداء، وطرق أخرى يغنيها الرعاة لأغنامهم وإبلهم ولأنفسهم، كطرق الجبل، واللُبِيني، والمجالسي، وفي فن الشعر الشعبي، وخصوصًا عندنا في زهران وأبناء عمومتنا من حولنا، وإما أن يكون رجزًا قصيرًا، يحث على السرعة في العمل والاستمرارية وبث الحماس في مجموعة العمل.. (وسمعت -ولا أجزم- أن سلمان الفارسي -رضي الله عنه- قال: كنا نحفر الخندق وكان رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- أشدنا عملًا وأكثرنا حماسًا، فكان يحمل مرزبة يهوي بها على الصخور وهو يرتجز: “أنا النبي لا كذب.. أنا ابن عبد المطلب”).
وللعُمال أهازيج وأرجوزات ينتخبونها من الشعر فيرددونها أثناء العمل؛ فتثير الحماس وتجدد النشاط، وسأختصر بأمثلة بسيطة رغم أنها كثيرة جدًّا…. قال كشاجم
((لا أستلذ العيش، لم أدب له.. طلبًا وسعيًا في الهواجر والغلس.
وأرى حرامًا أن يواتيني غنى.
حتى يحاول بالعناء ويلتمس))
وقال أبو العلاء المعري:
(لا تأنفن من احترافك طالبًا …. حلا وعد مكاسب التجار.
فالمجد أدركه على علاته…. قوم بيثرب من بني النجار)
وقال أحمد شوقي في قصيدة يتغنى بها العمال المصريون كثيرًا:
(أيها العمال أفنوا العمر ….. كدًّا واكتسابا.
واعمروا الأرض فلولَا … سعيكم أمست يبابا.
إن للمتقن عند الله… والناس ثوابا)
وهي طويلة اخترت منها ما ورد.
وقال سالم المبارك في أرجوزة شعبية يستحث فيه ربعه..
((يا ربعنا ضاع الجميل … معروفنا كلا نساه.
ما يسلم إلا من يعيل .. واللي سكت كلا وطاه.
يا ربعنا ضاع الجميل … والصبر مدري ويش وراه))..
أكتفي بهذا القدر خشية الإطالة. وندلف إلى شعر الضيعة (الشغل) وما أكثرها عندنا! ولكني سأركز على الزراعة، وهي العمل الأساسي، ولها فروع كثيرة وتستمر مع الحياة ويتصل أولها بآخرها حتى تكاد تتداخل كدِياس البُر والشعير وغيرها من محاصيل الصيف، وحرثة الفيحة للذرة والدخن وأخواتها من منتجات الخريف، وما بينهما من فصول الشقاء والمعاناة.
فنبدأ بحرث الوسمية هو وما يسبقه من الرديم والعقاش والبشيرة، فما إن تحل نجوم الوسمية وكانوا يعرفونها تمامًا بعلامات ومرادم يتخذونها حتى يهبوا إلى سوانيهم يضبونها ويبدأون، (وإني لأعجب من قوة التوكل والثقة بالله التي كانوا يحملونها في قلوبهم، فيسرح الرجل بنصف ميرة أهله يدفنها في أرض غبارها يتطاير لم تذق الماء من زمن بعيد متوكلًا على الله وهو ينثر تلك الحبوب (يذرأ)، يردد أدعية مأثورة حفظها الأبناء عن الآباء والآباء عن الأجداد وأشهرها. ((بسم الله، وتوكلنا على الله، من أيدينا بين أيدي الله، اللهم لا تحرمنا ولا تغرمنا، اللهم لنا وللطير، ولشبار الخير، اللهم لنا ولكل من شبره)) فيرحمهم الله وينزل عليهم الأمطار فيحصدونها بقدرة الله أضعافًا مضاعفة!).
ونعود إلى الحرث، فما إن تقرن السانية ويبدأ الحارث في الحرث إلا ويتخاطب مع ثوريه وكأنهما زميلا عمل يوجههما ويغني لهما، والويل ثم الويل لمن يصمت؛ فتكل ثيرانه وتكسل وهو يفقد الحماس فتثقل خطواته!.. (ووالله إنني أذكر والدي -رحمه الله تعالى- حيث كنت أحرث، فأصمت أحيانًا من التعب فيأتيني مسرعًا ويفتّك التابع من يدي قائلًا الرجال باصم والثيران حاسرة -بالمناسبة الحارث لا يضرب الثورين إلا إن كان غشيمًا أو تعبًا، وكان أبي لا يقبل ضربهما، إنما نخزًا خفيفًا أو لمسًا بالصميل لغرض التعديل- فيفتك التابع من يدي وينخزهما بالعصا ويصيح فيهما ويبدأ الغناء، فكأنك أعدت لها الروح والنشاط! وليس للحرث نوع من الشعر خاص به، إنما أرجوزات قصيرة، وغالبًا من قصائد الحرب الزمل القصير التي غالبًا أربعة أبيات، بيتان بَدعًا ومثلهما رد، وقد ينهي الرجل حرث ركيبه كاملًا متنقلًا بين قصيدتين أو ثلاث).
ومن أشهر ما كنا نغنيه:
((سلام يا صُورنا الوثيق … للحرب رزت بيارقه…
عسى الذي يكره الرفيق … عسى العوافي تفارقه))
((الغبينه في قساة المفارق .. والدوين المحقرة ما تعيبه.
حي من يبدي لنص البيارق…
يثني للهينه والتعيبه))
((يا علي جيت في شاتك بثور … يكتمل في العداد أو في المحر.
جاك من رد خصمه في عثور…
صفقاته كما صفق البحر)).

((يا سلام الله علي دعوي بني عمي..
مثل صخرة ما حديدا يكتمل فيها.
أحمد الله بعد ذا المدة أنجلى همي … وأثر للحاجات ساعه تنقضي فيها)).
((يا رفيقي لفيتك بالنقاء… واوراها السبل والسابلة.
جاك من يطلع أرياع الشقاء.
ومحاجي العدا متقابلة)).
ولديَّ الكثير ولكنني أكتفي بما ورد.

يأتي بعد الحرث الدمس، والدمس له طعم خاص عند الحادي وعند السانية، فهو أولًا خاتمة العمل ما بعده إلا الراحة، وهو أيضًا أسهل، فالسانية أهون عليها، والحادي راكب مستمتع رغم أنه يتطلب احترافية عالية ومهارات خاصة..
ولقصائد الدمس إطراب خاص، وخصوصًا إذا كان المؤدي ذا صوت جميل، فوالله العظيم إنني لكنت أعجب من حركة الثورين في الدمس حيث يرفعان أذنيهما ورأسيهما ويحركانهما وكأنهما يسايران هذا المنشد ويطلبان المزيد! وهذه أمثلة من قصائد الدمس (وقد يكون فيها بعض الخطأ أو النقص، وللقارئ الكريم حرية التعديل والإضافة إن كان لديه ذلك)..
يقول مخاطبًا السانية..

((روحيني عن الليل يا مالي….
فان في الليل ذيب (ون) ورجالي))
ويقول مخاطبًا إياها أيضًا:
((مدي رقابك يا رقاب الصيدي..
مدي رقابك وانفحي بالإيدي.
مدي رقابك وأبشري بالإطلاق.
وبالمضحا والغدير الصفاق))
ويقول لهما:
((ليح لها يا ثور في المضانك…
لياح نسر (ون) فوق لحما هالك.
ليح لها يا ثور واخترجها .. والمدمسه بين الحداد ادرجها.
ليح لها يا ثور دمه دمه…
وبعدها فينا وفيك الذمه)).
ويعقب ذلك الدمس ما يعقبه من استراحة طويلة وخاصة للثيران.. من الدمس إلى الدياس لا تقل عن خمسة أشهر إلا لمن كان يسوق من الأبيار وقليلًا ما هم، وخاصة في محاصيل الصيف التي غالبًا تعتمد على المطر..
وبعد هذه الاستراحة الطويلة للسانية، يكون أهل البيت استراحوا أيضًا، إلا من أعمال ليست بذات الكثافة أو الإجهاد، فهي إما اعتلاف أو احتطاب أو تجهز العدد والمساطح والجرن، بعدها يطل موسم الحصاد الصرام فقد استوت المحاصيل، فيسرح أهل القرية كلٌّ إلى بلاده، يصرمها نساء وأحيانًا يكون معهن الرجال. وللصرام شعره الخاص، وهو ليس بدعًا من الشعر، بل هو غالبًا أراجيز قصيرة. وربما رمت إلى العمل نفسه، أو إلى العامل إما بمدح أو بتهكم (مزح). وإليكم بعض الأمثلة.
يقسمون الركيب إلى عدة أقسام أحوال ومفرده حول، ويجيء أشدهم بين الحولين وكلما تقدموا دقل الحول ليزيد مساحة الحول الذي تحت الصرام دون أن يشعر من معه، وهي سياسة لسرعة الإنجاز وهم يؤدونه، فيصيحون:
((علي من الحول….. فيرد عليهم علي!! وادقله)) ويكررونها حتى آخر الحول…
وأحيانًا يتعب أحدهم فيذهب إلى القربة المعلقة في السند يشرب ماءً، ويأخذ استراحة قصيرة فيرمقه أحدهم فيبدأ يغني مخاطبًا الذين يصرمون:
((عزاي يا شيحا جرد ….. حماحمه مغيره..
فيرد الباقون في تهكم…
الغمر إذا لقا السند!!!! في دحشة الظهيرة..))
فيتحمس ويعود للعمل نشيطًا.
ولهم قصيدة لابن خماش رحمة إذا كان الركيب كبيرًا وهو ما يسمى بالسد.
((قال ابن خماش: ما ادري وين انا م السد… والله لكلت يمني والمحش كله..
يا صاحبي أنا دخيلك لا يبيح السد… أنا عنيت شبابك بيننا خله))
وربما يقترب المغرب وباقي عليهم القليل فيرددون:
((ليت الصايح تقدم …. والشمس بعد حيه.
ونخلط الدم بالدم ….. وان مت ما عليه))
بعد أن يصرموا محاصيلهم وينقلوها إلى ما يسمى بالمساطح، ينشرونها إذا أشمست ويحبلونها إذا أمطرت.. وهكذا حتى تجف تمامًا وتصبح قابلة للدياس ((وما أدراك ما الدياس!)).
الدياس أكبر مراحل الزراعة شقاء، فهو يستمر لوقت طويل. وينقسم إلى مراحل أيضًا. ويشترك فيه أكبر مجموعة ممكنة. وتجر فيه السانية تلك الصوانة الصماء ((الخورمة)) وأسوأ ما في الدياس ذلك الغبار الدقيق جدًّا الذي يلتصق فوق الأجسام فيسبب إزعاجًا كبيرًا، وهو ما يسمى ((بالحمط)). خرجت عن الموضوع كعادتي فاعذروني. أعود إلى شعر الضيعة والخاص بهذا العمل.
أشهر أراجيز الدياس هي:
((يا ليتني يوم الدياس غايبي … وارعي الغنم في غمق الشعايبي..))
وأيضًا..
((تدق لو كانت عصيفا اخضري … إذا احتداها الخورم المنخبري))
وإذا تحطم سطح الديسة اضطروا إلى قلب أسفلها أعلاها. ولهم في ذلك أرجوزة خاصة.. وهي:
((الحنطة تبغي قالبات أربع …… وفي عويره أربعا في أربع))
أي ثماني قلبات.
إذا دقت وجاء وقت الحصير، وهو جمع المحصول ككثيب صغير في جزء من الجرين يسمى المذراء، وهو جزء مظلل حدد كأفضل جهة تهب من الرياح، ولهذه العملية رغم قصرها أرجوزة خاصة هي:
((جريننا وما فيه….
وما ضمت حواشيه..
والبركات اهي فيه….
تصابحه وتمسيه..
وإذا جاء الليل أوت فيه…
جريننا وما فيه))

وما إن يستقر ذلك الطود من الدويس الذي يسمونه الحصير، مكونًا من حب ورفة حتى يقوم عدد زوجي من المذرية قد يكون اثنين أو أربعة أو ستة، حسب ما يسمح اتساع المذرا فيبدأون في الذراه وهي فصل الحب عن الرفة عن طريق الرياح. ولهم في ذلك أراجيز أكتفي منها بما يلي:
((يا رب في هبوب ريح….
تعاون المذريه.
ونفصله ونستريح… في صحة وعافية…
وأهل العبار والمريح…. فهب لهم كما تيه..!!!
يا رب في هبوب ريح))

ويغنون مخاطبين الرياح:
((هبي يا نود… يا نواده.
يا نسم الجود… المنقاده.
هبوب الخير … ولك عاده
عادة شيخا …. بين أولاده)).
ويمر موسم الفيحة بنفس المراحل تقريبًا، إلا أن أهازيج وأراجيز الصرام تكون أقل بكثير وليس هناك دياس، ولكن هناك ما يسمى بالدقاقة، ألا وهي خبط سنابل الذرة بجميع أنواعها والدخن أيضًا. يجهزون مخابط محنية بطريقة محسوبة (غالبًا من أغصان العرعر في السراة والسدر والسلم في تهامة). ويسمونها المخابط أو الحنايا. يجمعون المحصول، ويتقابل فريقان -حسب العدد المتوفر- ويخبطونه بتلك المخابط في تناغم عجيب وكأنهم أسطوانات محرك، فريق يخبط وفريق يرفع، ولو خرج أحدهم انضربت مخبطته بمخابط الفريق المقابل مما قد يسبب له الأذى ويضطر الفريق إلى التوقف وإعادة العزف.
وهذا العمل له قصائده الخاصة التي تلائمه، فهي أبيات أطول من الأراجيز، ولها لحن متناغم جميل لا يحضرني الكثير.. فالجود من الموجود..

يقولون..
((خبط الحنايا نبهتني من النوم…
وأنا ثقيل الجسم وازيت لا أقوم…
الله يديمك يا دخن دايم الدوم …..
من ذا بيطلعك السراه من تهامه)).

ولهم:
((يا جابلا ترعي فراعك عتيبه….
بالضان والمعزا.
يا عم تطلبني الحيا وانت شيبه.
وراك ما تمزا..
ما حاسبوه الناس ربي حسيبه….
وان مات ما يرزا))

ختامًا.. لا يذهب القارئ الكريم إلى أن ما ذكرت هو كل ما يغنى ويُرتجز من شعر الضيعة، فبعضهم يذهب إلى فنون أخرى كشعر العرضة، والزمل، واللعب. وخشية الإطالة -وقد أطلت- أكتفي بهذا القدر وإلى لقاء آخر.. تقبلوا تحياتي..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى