بدأت الصلة بين مكة والسماء منذ أبي البشرِ آدم -عليه السلام-، حين أهبطه الله من السماء إلى الأرض، ودله على موضع الكعبة فبناها أول مرة، فكانت أول بيت وضع للناس، وتجددت هذه الصلة مرةً أخرى حين أرشد الله إبراهيم -عليه السلام- إلى مكان البيت بعد أن انطمس أثره. ولما عرف المكان بوحي السماء باشر هو وابنه إسماعيل -عليهما السلام- العمل في البناء: (وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ) (الحج: 26).
ثم تكررت هذه الصلة حين خفق جناح جبريل -عليه السلام- على غار حراء، وألقى على قلب رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم آيات الوحي السماوي الأولى: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَق) (العلق: 1).
ولم تلبث هذه المدينة المباركة أن وثقت صلتها بالسماء حين أُسري بخاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم منها إلى بيت المقدس، ثم إلى السماء السابعة.
ولم تكن هذه كل صلات مكة بالسماء، فقد درج على أرضها عشرات الأنبياء من حملة وحي السماء، قال صلى الله عليه وسلم: “صلى في مسجد الخيف سبعون نبيًا، منهم موسى صلى الله عليه وسلم”، (رواه الطبراني وصححه الألباني).
ومع كل هذه الصلات البشرية السماوية، فهناك أيضًا صلة ملائكية سماوية، صلة عجيبة ليست إلا لمكة.. فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “البيت المعمور مسجد في السماء بحذاء الكعبة، لو خر لخر عليها، يدخله سبعون ألف ملك كل يوم إذا خرجوا منه لم يعودوا”، (الألباني: إسناده مرسلًا صحيح).
فأي صلة سماوية هذه تنفرد بها مكة عن سائر بقاع العالم!!
هكذا إذن ترتبط مكة بالسماء.. فهي منها وإليها.. هبط إليها وحي السماء.. وارتفعت منها إلى السماء ملايين الأدعية والأمنيات يجأر بها المؤمنون بجوار البيت العتيق. فلا عجب إذن أن تهوى إليها القلوب قبل الأبدان: “فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم”. لقد أدرك الناس حتى في أزمنة الجاهلية قيمة هذه المدينة السماوية، وقيمة بيتها العتيق المعظم، فبناه العمالقة، وبنته جرهم، وبنته قريش، وكانت قريش خصوصًا تعظم الكعبة، فكانت لا تدخلها بحذاء، ولا تبني بجوارها بيتًا يعلوها، ولا تستحل الجناية بجوارها، بل كان القرشيون يبنون بيوتهم مدورة لئلا تشبه الكعبة المعظمة!!
فلما جاء الإسلام زاد من تعظيمها، فجعلها قبلة الصلاة، ومركز الطواف، وحرمها، وجعل تعظيمها آية التقوى: (ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ) (الحج: 32).
فما يزال المسلمون عبر التاريخ يعظمون هذه المدينة وحرمها، حتى جاءت هذه الدولة السعودية المباركة فلم تدخر جهدًا في خدمة مكة، ولا ادخرت وسعًا في خدمة بيتها الحرام.
0