بسم الله.. والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله ومن ولاه..
أودع الله في نفوس البشر أحاسيس يعيشها الفرد منذ أن ترى عيناه النور، وأول تلك الأحاسيس هي أحاسيس الحب والكراهية.. فهل بكاء المولود عند قدومه إلى الدنيا كرهًا لهذه الحياة الجديدة؟! ذلك أمر لا يعلمه إلا الله ثم الراسخون في العلم، ولكن البكاء حالة من الألم أو عدم الرضا. ولكنها قليلًا ما تلبث حتى تتحوَّل إلى حالة حب من ساعة أن تحضنه أمه؛ فتتولد تلك العلاقة من الحب الذي لا يُخالطه شك. وتنمو تلك المشاعر، وتتكاثر فيعيش بين الحب والكره، وموضوعي اليوم هو عن الحب بين الإنسان وبين الجماد من أودية وجبال ومواقع وديار، وبيوت وكل ما يحيط بالإنسان من الجمادات، وتتكون تلك العلاقة مع الوقت، وتكبر مع الشخص فحب الأوطان شعيرة من شعائر الحياة لا ينكرها إلا جاهل؛ فكل مخلوق يحب وطنه ويتعلق به وللوطن في قلوب الأحرار منزلة عالية ومحبة راسخة إلا من خذله الله؛ فهو خائن ناكر.
ولنا في رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- مثلًا أعلى عندما نزلت له التوجيهات الإلهية بالهجرة إلى يثرب دار نصرته، يروى فيما معناه أنه التفت مخاطبًا أم القراى.! قائلًا: ((أما ولله أنك لأحب البلاد إلى قلبي، ولكن أهلك كذبوني وقلوني وأمرني ربي أن أهجرك))…
وتعلق العربي بالأطلال بعد أن ترحل عنها حبيبته مع قومها وكذلك كانوا يرحلون وينزلون ويمر عليها ويغشاه ما يغشاه من الذكريات، فينشد مخاطبًا تلك الدمن والآثار..
يقول ملك الشعراء امرؤ القيس:
((قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل…. بسقط اللواء بين الدخول وحومل…
وقوفا بها صحبي علي مطيهم…
يقولون لا تهلك أسى، وتحمل..
ففاضت دموع العين مني صبابة…
علي النحر، حتي بل دمعي محملي..))
ويقول طرفة بن العبد مخاطبًا دار خولة بعد أصبحت أثرًا بعد عين..
((لخولة أطلال ببرقة ثهمد…. تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد..
وقوفًا بها صحبي علي مطيهم…
يقولون لا تهلك أسى وتجلد..
وفي الحي أحوى ينفض المرد شادن.
مظاهر سمطي لؤلؤ وزبرجد))
وهذا زهير بن أبي سلمى شاعر الحكمة يخرج عن حكمته عندما وقف على أطلال ديار أم أوفى بحومانة الدراج… بعد عشرين سنة.
((أمن أم أوفى دمنة لم تكلم…
بحومانة الدراج فالمتلثم..
ودار لها بالرقمتين كأنها.. مراجيع وشم في نواشر معصم.
وقفت بها من بعد عشين حجة.
فلا عرفت الدار بعد توهم…
فلما عرفت الدار قلت لأهلها… الأعم صباحًا أيها الربع وأسلم))
وهذا هو “عنترة بن شداد” أبو الفوارس الشجاع الذي لا يلين، يضعف ويقف أمام أطلال ديار عبلة بنت مالك، ويقف مخاطبًا تلك الآثار والأطلال.
((هل غادر الشعراء من متردم.. .. أم هل عرفت الدار بعد توهم..
يا دار عبلة بالجواء تكلمي. … وعمي صباحا دار عبلة واسلمي..
إلى أن يقول:
(حييت من طلل تقادم عهده. … فاقفى واقفر بعد أم الهيثم)..
وهذا جرير يمر على جبل الريان فيحبه ويحييه من أجل عين من سكنه إلى أن يأتي بأجمل أبيات الغزل التي يتمثلها العاشقون
((يا حبذا جبل الريان من جبل… وحبذا ساكن الريان من كانا..)
إلى أن يقول:
أن العيون التي في طرفها حور..
قتلننا ثم لم يحيين قتلانا
يصرعن ذا اللب حتي لا حراك به..
وهن أضعف خلق الله إنسانا.
وما أصدق قول شوقي -رحمه الله-: ((وللأوطان في دم كل حر….يد سلفت ودين مستحق))
وقوله أيضًا:
((وطني لو شغلت بالخلد عنه…. نازعتني إليه بالخلد نفسي.))
ويقول أجدادنا في أسطورة: إن الغراب كان يصيح ذات يوم ((وطني وطني)) فبحثوا عن وطنه فوجدوه في أغصان يابسة!!
ويتعلق الشخص بمراتع صباه وميادين شبابه، وربما اقترن حبه لتلك العرصات لحب آخر ربط بين الإنسان والمكان.
يقول الشاعر:
((أمر على الديار ديار ليلي… أقبل ذا الجدار وذا الجدارا.
وما حب الديار شغفن قلبي… ولكن حب من سكن الديارا..))
الربط بين فترة الصبا، وتلك المشاعر الجياشة في حب كل ما يحيط بالشخص، إلا أنه يجعل نقطة ارتكاز ذلك الحب هو من تعلق به قلبه. اسمع إلى كاتب المقال يقول في وادي المجن، وهو وادٍ كان يعتبره فردوسًا من الجنة وكانوا أهل القرية يقولون: ((وادي المجن جنة)) يقول مخاطبًا ابن أخيه المهندس الشاعر محمد سعيد…
((محمد الناس تنشد وين وادي المجن؟؟؟!!!
وادي المجن نزله ربي من أرض الجنان..!!!
وقال حطوه شاما عن قرى بالحكم..
وفيه قابلت حورية وحبيتها..
حبيت حتي حصى الوادي!!على شأنها..))
لم يكن حب الحصي لذاتها، وإنما من اجل نقطة ارتكاز أخرى.
ويقول الأصوك مخاطبًا قاسم -رحمهما الله- كما رويت لي والعهدة على الراوي..
((يا قاسم ويش الذي أوزاني على حب نيس؟
أحب ذاك الجبل وأحب طلاعته!
ما فيه بنا، وإلا أعنابا، ولا موزيات…
لكن شوفه عجب عيني وراحة لها….
رد قاسم:
الله يا هب لقلبك يا ابن الأصوك ونيس.
قهرت في فتنة المخطي وفراعته.
اللي يحدون بأهل الشيمة ع الموزيات..
عشانهم باحت الشيمة وراح أهلها…)).
وسلامتكم وإلى اللقاء…