السؤال المطروح على الساحة الآن بعد حرب إسرائيل المسعورة على غزة وقتلها وجرحها آلاف المدنيين من أهل القطاع عبر هجوم دموي غير مسبوق يرتقي إلى مستوى الإبادة الجماعية: ماذا بعد تلك الحرب؟
في البداية ينبغي القول: إن موقف المملكة العربية السعودية من تلك الحرب منذ بدايتها هو امتداد لمواقفها السابقة التي أبدتها منذ نحو قرن كداعم مساند قوي وثابت ومستمر للحق الفلسطيني، وقد ظلت المملكة منذ عهد القائد الموحد الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود تقدم كافة صنوف الدعم للقضية الفلسطينية، وهو ما تثبته الوثائق التاريخية، وحيث ظلت المملكة في عهد ملوكها سعود وفيصل وخالد وفهد وعبد الله – يرحمهم الله- تتمسك بهذا المنهج، ثم وصل هذا الدعم إلى قمة عطائه في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز وولي عهده الأمين سمو الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز. مظاهر هذا الدعم معروفة ومعلومة لدى الجميع، ومن أمثلته الحديثة موقف الرياض من تلك الحرب الإسرائيلية الخامسة على غزة التي تعتبر الأشرس والأكثر دموية في سلسلة تلك الحروب الغاشمة التي تهدف إلى إبادة أهالي غزة، وهو ما تمثل في رفض المملكة تهجير الفلسطينيين، وفي مطالبتها بفتح ممرات آمنة فورية تلبية لنداءات الإغاثة، ورفض متطلبات الإدارة الأمريكية التي حملها وزير الخارجية بلنكن في زيارته للمملكة، وفي دعوة المملكة لعقد اجتماع استثنائي عاجل للجنة التنفيذية لمنظمة العمل الإسلامي على مستوى وزراء الخارجية في جدة لبحث العدوان العسكري الإسرائيلي المتواصل على الشعب الفلسطيني، وصدور بيانات وزارة الخارجية السعودية، والتي عبرت بكل الصدق عن الدعم السعودي اللامحدود للشعب الفلسطيني وقضيته وشجبت بأشد العبارات العدوان الإسرائيلي السافر على قطاع غزة، ففي بيان وزارة الخارجية حول قصف إسرائيل لمستشفى المعمداني استخدم البيان لغة تصعيد دولية قوية، وأسمى تلك الجريمة بـ”الجريمة البشعة”، كما استخدم البيان مفردات دقيقة جدًا في المطالبة بالتخلي عن “ازدواجية المعايير والانتقائية في تطبيق القانون الإنساني الدولي”. كما نص البيان الختامي لوزراء خارجية منظمة التعاون الإسلامي على “الدعوة إلى الوقف الفوري للعدوان الهمجي لقوات الاحتلال الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، والرفع الفوري للحصار المفروض على القطاع، وتؤكد على إدانتها الشديدة لما يتعرض له المدنيون في قطاع غزة المحاصر وعموم الأرض الفلسطينية المحتلة من عدوان غير مسبوق من القتل والقصف وتدمير البنى التحتية المتعمد، وتهديده بارتكاب الفظائع وبالإبادة الجماعية بحقه، وعلى الرفض المطلق لاستهداف المدنيين تحت أي ذريعة كانت أو تهجيرهم من منازلهم، أو تجويعهم وتعطيشهم وحرمانهم من النفاذ الآمن للمساعدات الإنسانية بما يتعارض مع كافة الأعراف والقوانين الدولية، ومع أبسط المبادئ والقيم الإنسانية، ولا ننسى ونحن نتحدث عن الموقف السعودي تصريح سمو ولي العهد بأن استهداف المدنيين في غزة جريمة شنيعة واعتداء وحشي”.
هذه المقدمة الطويلة لا بد منها لمنع أي مزايدة على المواقف الثابتة للمملكة إزاء قضية العرب المركزية باعتبارها قضية مقدسات وحقوق مسلوبة وشعب مظلوم هو الشعب الفلسطيني الذي يُعتبر الشعب الوحيد في العالم الذي ما يزال يرزح تحت الاحتلال.
وعندما نتحدث عن مجريات الأحداث الجارية في غزة، فإننا سنجد أن البعض يرى أن ما حدث يوم 7 أكتوبر 2023 في مستوطنات غلاف غزة من قبل المقاومة الفلسطينية يعتبر نتيجة حتمية لعقود من الاحتلال والمعاملة القاسية والمطولة التي تمارسها إسرائيل ضد الفلسطينيين، وكان ذلك واضحًا ومفهومًا من قبل مئات الآلاف من المتظاهرين المؤيدين لفلسطين في أنحاء العالم، بما في ذلك البنتاجون والبيت الأبيض، وداخل الكونجرس نفسه.
وكان تضامن إدارة بايدن مع إسرائيل بعد هجوم حماس على مستوطنات غلاف غزة سريعًا، سواءً على صعيد إرساله حاملة الطائرات الأمريكية جيرالد فورد، بجوار شواطئ إسرائيل، أو تعهده بتوفير كل ما تحتاجه إسرائيل من أعتدة عسكرية، أو من خلال زيارته لتل أبيب لإظهار تعاطفه ودعمه لها. لكن رد فعل إسرائيل الانتقامي على هجوم حماس كان رهيبًا، وفاق بكثير كل حروب إسرائيل الأربعة السابقة على غزة بمراحل.
وتأمل البعض أن تلفت مأساة غزة نظر الرئيس الأمريكي خلال زيارته لإسرائيل، وتأمل البعض الآخر أن يقوم الرئيس الأمريكي بالعمل على منع حدوث كارثة للأبرياء الفلسطينيين. لكن بايدن الذي لا يكف عن ترديد مقولة “حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها” تحدث في هذا الجانب فقط عن إيصال المساعدات الإنسانية لأهالي غزة. لكن ما لفت النظر في تلك الزيارة، تحذيره إسرائيل من إعادة احتلال غزة، وحيث طلب من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو عدم القيام بالهجوم البري على غزة، وهو ما حذر منه أيضًا مارك لينش في مقاله في مجلة “فورين أفيرز” في 14/10/2023 بقوله: “هذا هو بالضبط الوقت الذي يجب أن تكون فيه واشنطن أكثر هدوءًا وتنقذ إسرائيل من نفسها”، فالغزو الوشيك لغزة سوف يشكل كارثة إنسانية وأخلاقية واستراتيجية. فهو لن يضر بشدة بأمن إسرائيل على المدى الطويل ويسبب تكاليف بشرية لا يمكن تصورها للفلسطينيين فحسب، بل سيهدد أيضًا المصالح الأمريكية الأساسية في الشرق الأوسط، وفي أوكرانيا، وفي منافسة واشنطن مع الصين على النظام في منطقة المحيطين الهندي والهادئ. فقط إدارة بايدن – التي توجه النفوذ الفريد للولايات المتحدة والدعم الوثيق الذي أظهره البيت الأبيض للأمن الإسرائيلي – يمكنها الآن منع إسرائيل من ارتكاب هذا الخطأ الكارثي.
تتراوح سيناريوهات “غزة ما بعد السابع من أكتوبر بين سيناريوهات تحدث مواكبة لاستمرار الحرب، وأخرى تحدث على المدى البعيد، حيث تظهر مؤشرات واضحة في الوقت الراهن على أن المنطقة على أبواب تغيرات جذرية سواءً على صعيد تطورات القضية الفلسطينية وإجراء مفاوضات أكثر جدية وفاعلية من ذي قبل، أو على صعيد طبيعة وشكل النزاع الفلسطيني الإسرائيلي في صيغ وآفاق جديدة أولها إحياء حل الدولتين وإمكانية تطبيقه خاصة في ظل فشل إسرائيل – كما هو متوقع- في تحقيق أهدافها من حرب غزة. لكن يبقى من الواضح أن الهجوم البري سيتم بشكل محدود خلال الأيام القليلة المقبلة، وقد يشمل بضعة كيلومترات فقط من شمال غزة، وأنه لن يكون هناك لجوء جديد لأهالي القطاع، وستضطر إسرائيل للانصياع إلى مطالب المجتمع الدولي فيما يتعلق بإجراءاتها اللاإنسانية في قطع المياه والكهرباء والوقود والطعام. أما على المدى الطويل فإن الاعتقاد أن هذه الحرب على غزة ستكون الأخيرة في سلسلة حروب إسرائيل الدموية على القطاع كونها فرضت واقعًا جديدًا على الأرض، ولا بد وأنها ستؤدي إلى الإطاحة ببنيامين نتنياهو، وموجة هجرة إسرائيلية معاكسة، ورفع أسهم القضية الفلسطينية من جديد، وما يمكن أن يصاحب ذلك من دعم دولي جديد لهذه القضية وتراجع في الموقف الغربي الداعم لإسرائيل.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجمع كلمة المسلمين على الحق، ويوحد قادتهم ويؤلف بين قلوبهم، وينصرهم نصرًا عزيزًا مقتدرًا.