المقالات

العرضة من المنظور الأدبي والأخلاقي

تفرز القرائح الشعرية على مرور الزمن نتاجها وفيحها في ألوان وأنماط من الشعر سواء كان الشعر فصيحًا أو شعبيًا أو نبطيًا أو عرضة، ولكل منها أدبياته وجمالياته ومعجبوه، وقد استرعى الانتباه ما وصل إليه شعر الشقر في الآونة الأخيرة؛ فاستوجب التوجيه لما ظهر مؤخرًا وشاهدناه عبر وسائل التواصل الاجتماعي ما هو خارج عن اللياقة وأدب الحديث في ميدان العرضة، وشعر الشقر في مناسبات عدة من شتائم وألفاظ شوارعية غير مقبولة التي تخطت حد الاستهجان والمقارعة اللفظية الحادة، وتلك الظاهرة اشتملت أمورًا لم تعد محمودة أو مقبولة على جميع المستويات حتى وصل الأمر إلى التطاول والاشتباك بالأيدي على الملأ دون مراعاة الحضور واحترام القيم والمبادئ وتعاليم ديننا الحنيف، وربما جر الشاعر السباب والازدراء إلى قبيلة أو قرية أو مدينة بأكملها وطعن في الأنساب وازدراء بعض الحرف، وقد يكون من يوجه له السباب والسخرية ممن لا يجوز الطعن فيهم لشرف نسبهم وأصالتهم، وهذا كله لا يليق لا بأدبيات الشعر وأخلاق الشعراء؛ وخاصة شعر الشقر “العرضة ” في نواحينا والذي هو جزء من تراثنا الخالد والمحبب لدى أبناء المنطقة والمناطق المجاورة كما لا يليق بالشعر لا من ناحية الشكل أو المضمون أن نرسف في منتقصات تجر علينا اللوم وتفسد هذا الفن وتخيم على الذوق العام، حيث كان هذا الفن في الماضي يؤدي رسالة سامية كمظهر بإقامة المناسبات وقضاء وقت جميل في الفرح والألفة ناهيك عما كان يقوم به من دور إيجابي في الإصلاح بين القبائل، وفك المشاكل وشحذ الهمم والفرح بالانتصارات بعد الحروب.
وهذا على عكس ما عليه الصورة الآن، وإن كان من مقارنات بين الماضي القريب والجديد الذي تمتلئ به وسائل التواصل الاجتماعي؛ فهي مقروءة ومشاهدة نقول نعم كان موجودًا بعض الهجو والسباب والتقليل من شأن الآخر، وإنما كان لكلمة الشعر عندهم حرمة وحدود أما الآن فإنه التشفي والأحقاد والانتقاص من قيم الناس لأسباب معظمها أو كلها شخصية لم ترتقِ عند الوقوف على المبادئ والحدود العامة؛ فأصبحت احتفاليات العرضة تربصًا بائنًا بالآخر، وتعمد الاستفزاز على غير القديم الذين كانوا يحترمون ماء الوجه فيغطون ما يوجهونه للآخر من كلمات بجماليات الصياغة التعبيرية وعلوم المعنى والمبنى بالرغم من فهم المختفي وراء الكلام “الخبو” لدى الآخر فشعراء الماضي ينتقون فيها كلمات متوارية تختبئ تحت طيات المعاني المقصودة والموجهة للطرف الآخر ويفهمها الخصوم؛ لأنهم ليسوا بالسذج ولا الأغبياء ولكنهم يمتنعون عن الإهانة المباشرة خلقًا، بل أقصى ما كانوا يوجهونه به البدع الإتيان بالمثل ويأتي الرد كذلك لأنهم يعرفون أن ذلك أبلغ وأوقع؛ لأنه ليس مقصودًا السباب في ذاته وإنما هو فن الشقر الممتع لهم وربما أحس الشاعر بالقصور إذا لم يستطع مجاراة من يقارع ويهرب إلى وسائل أخرى ينفس فيها ضعفه كما شاهدنا مؤخرًا، وفي أشعار أسلافنا نجد متعة التذوق والتأمل التي تحتضن صنوف وألوان البلاغة والنظم المتنوعة، يستخدمون الرمز كما كان يفعل كبار وعمالقة الشعر قديمًا وحديثًا والتي كانت من أسباب بقاء أشعارهم ومساجلاتهم ومعارضاتهم برونقها وجمالها حتى يومنا هذا في ديباجة من الجمال والسحر.
وفي لمحة جلية من تراثنا النقدي والأدبي الكثير من المواجهات لكنها تقف عند حدود الأدب تراعي الأشخاص والذوات، ومن ذلك ما قاله الشاعر الأموي يزيد بن مفرغ الحميري مشيرًا إلى أن الأحرار من الناس تكفيهم الإشارة:
حاولت حين صرمتني… والمرء يخطئ لا محالة
والدهر يلعب بالفتي… والدهر أروع من مقالة
والعبد يقرع بالعصا …والحر تكفيه الملامة
ولعلني أشير هنا إلى قارعة حدثت بين قطبي العرضة الشاعر عبد الله البيضاني والشاعر عيضة بن طوير ـ يرحمه الله ـ من عمالقة الشعر الجنوبي وفرسان الكلمة ـ على قدر ما فيها من المناوشات اللطيفة ـ إلا أنها احتفت بالآداب العامة، وحافظت على جماليات اختيار الكلمة ففيها يشير الشاعر بن طوير بانتمائه الحلفي مع قبيلة زهران، ويعتز بقبيلة بني سليم وامتداد جذوره لقرية الخليف التابعة لقبيلة الجُبر من بني سليم، وجاء رد الشاعر عبد الله البيضاني له بافتقاره الدليل الرسمي الثابت، أستحضر منها بعض الأبيات مع الاعتذار على نقلها بهذه الصورة غير الكاملة.
لفيت شاعر وراعي صوب ما جيت خيال
وراعي المرجلة ما تقصر أيدي عن إيده
… وما يلي من القارعة بيت القصيد لبن طوير:
ولا تعزويت في ربعي رجال السليمي
يتفجر الصخر وتلين الجبال العنيدة
الرد من الشاعر عبدالله البيضاني:
يا كم لي أردد الآحان ياليل ياليل
وكثر الأحان ما جبت هويه ما الأحوال.
أسجل أسمي في الأحوال ويردوا أسمي
مثل الذي يفجر الميراد ويسد بيدة
ولو رجعنا إلى هذا الفن نجده موجودًا منذ أزمان بعيدة، نذكر مقتطفًا مما دار بين الفرزدق والبُعيْث؛ حيث كانا نموذجًا للكلمات المتوارية التي يرمون بها بعضهم البعض من شعر النقائض، والتي كان لا يفهمها إلا القليل إلا أنهم كانوا يستمتعون به على حد أنه هجاء لا يتطرق إلى الاعتداء بالرغم من فحش الكلام وسقطه أحيانًا مع اعتبار المتغيرات الموجودة الآن ومنها:
إذا ما قُلتُ قافيةً شُرودًا تَنحلها ابنُ حمراءِ العِجَاِن
ويحضرني بيت من تراثنا لإحدى الشاعرات أشبه بذلك تقول:
بالله دُمي واي لياليك زلت
يا شن غربٌ ما العراقي تفلت
وإن كان من كلمة أخيرة، فلا بد من التخلي عن الألفاظ الشائنة والأغراض الدنيئة المختبئة في نواياهم لإحداث ضجة مصطنعة قد يكون لهم فيها أغراض ومقاصد، ومرتب لها والعجب في ذلك أنه ولا شك يفترض أنهم أصحاب ذوق وحس بالغين فيستوجب ذلك الناي عن سفساف الأمور وترك مداومة النظر تحت الأقدام، فمن يتذوقون الأدب عمومًا والشعر خصوصًا ترتقي مسامعهم وترهف حواسهم وتعلو أذواقهم ويقتضي ذلك حسن سلوكهم، وذلك لأن هذه المساجلات تعد ضمن موروثنا الثقافي الذي تتلقاه أجيالنا الذي يجب علينا تقدير قيمته والحفاظ عليه، وربما كان من الأمثل والأصلح أن تشرف على هذا الموروث جهة رقابية مختصة بمثل ذلك للتوجيه بالأفضل، والحد من الخروج عن المألوف والصالح العام.
عبد الحي إبراهيم الزهراني ـ جدة ـ 6 ربيع الثاني ـ1445هـ

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى